طلال سلمان

عالم ما بعد فيتنام

دانانج، اسم لا ينساه أبناء جيل كان شاهدا على أحد أبشع حروب البشرية. أقصد حرب أمريكا ضد فيتنام. فمن دانانج انطلقت القوات الأمريكية تدمر وتخرب وتقتل شعبا لم يكن يبغي أكثر من استكمال حقه في طرد المستعمر الفرنسي ثم الأمريكي. ومن دانانج، وبعد أكثر من خمسين عاما، انطلقت في الأسبوع الماضي إشارات مهمة تعلن واحدة منها الاعتراف للصين ولأول مرة عضوا أول وقائدا لنظام إقليمي في جنوب شرقي آسيا. تعلن إشارة أخرى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من دور القوة الضامنة لأمن واستقرار الإقليم، بمعنى آخر تعلن نهاية دور صاغته أمريكا لنفسها في أعقاب إعلان هزيمة اليابان في نهاية الحرب العالمية.

***

كنا، من بعد بعيد، في انتظار رسالتين يتسلمهما أعضاء قمة الآبيك، أي قمة المجموعة الآسيوية الباسيفيكية المنعقدة في دانانج بفيتنام. انتظرنا رسالة يحملها الرئيس شي القادم لتوه منتصرا وقويا من مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني التاسع عشر. نحن من هذا البعد وزعماء الدول أعضاء مؤتمر الأيباك لم نحمل ذرة واحدة من الشك في أن الرئيس الصيني يأتي إلى هذا المؤتمر أقوى مرات عديدة وأعظم نفوذا وأوسع صلاحيات من أي مرحلة أخرى منذ توليه مسؤولية رئاسة الدولة والحزب في الصين. ولم يخيب أمل الكثيرين فقد جاء يحمل رسالة. أما الرسالة فتقول بأن الصين سوف تتحمل مسئولية حماية واستقرار ورخاء إقليم جنوب شرقي آسيا، وإنها، وهو الأهم، قررت الاستعداد لتتسلم مسئولية قيادة العالم منفردة أو مشاركة قبل منتصف القرن، أي خلال ثلاثين عاما على الأكثر. تلتزم الصين من الآن بأنها سوف تسعى لتوثيق عرى التجارة العالمية الحرة ودعم المؤسسات الاقتصادية الدولية والاندماج في العالم. لن تتخلى عن تعزيز ما حققته العولمة وتتعهد بمزيد من الانجازات من خلال برنامج الطريق والحزام باعتباره أداة الصين لتعميق العولمة وتوسيع دوائرها.

***

استمعنا، نحن ودول الإقليم والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بالاهتمام الواجب لتفاصيل رسالة الصين ثم جلسنا نقرأ بالدقة الممكنة رسالة الرئيس دونالد ترامب الذي انبهر باستقبال الفيتناميين رغما عن الكره المتأصل لدى الشعب الفيتنامي للأمريكيين. انبهر أيضا، ولعله على الدوام منبهر، بما أسماه المعجزة الفيتنامية. لا شك في أنه شعر منذ لحظة التئام شمل المؤتمرين في فيتنام أنه رغم مظاهر التفخيم من جانب الجولة المضيفة أن التبجيل من جانب الآخرين كان ناقصا. لم يحظ بما كانت تحظ به أمريكا من احترام وتقدير وأولوية في مؤتمرات آسيوية أو دولية. كان واضحا لنا في الصور. وكان واضحا أكثر في الوجوم الذي استقبل به الأسيويون والأوروبيون رسالة أوباما إلى آسيا.

ترامب جاء إلى آسيا منسحبا من اتفاقية الشراكة عبر الباسفيكي ومتمردا على اتفاقية التجارة الحرة العالمية. جاء ليعلن أن بلاده لن تدخل بعد الآن في اتفاقيات ومعاهدات متعددة الأطراف. أمريكا ستعقد إن احتاجت اتفاقيات ثنائية تخدم مصالحها، لا أكثر. قال هنا ما من شأنه أن يكون ترجمة حرفية لشعار أمريكا أولا. الرسالة واضحة. إنها الانعزالية الأمريكية الجديدة في أجلى معانيها. فهمها الصينيون على الفور. العالم يعرف، والمشاركون في هذا المؤتمر ومؤتمر الآسيان الذي لحقه في مانيلا أيضا يعرفون أن الصين لن تكون سعيدة بسياسة ترامب الانعزالية كما يتصور البعض. الصين شريكة أمريكا وفضل الصعود الصيني تشارك فيه أمريكا والعولمة التي كانت تقودها. الأوروبيون كالصينيين هم أيضا غير سعداء بانعزالية أمريكا. الروس قد لا يكونوا مستائين فانعزال أمريكا يمنح روسيا الفرصة لتتوسع في النفوذ في مواقع معينة قبل وصول الصين إليها، فضلا عن أن قاعدة كادت ترسخ يروج لها بعض علماء السياسة من الأمريكيين، تقضي بأن روسيا البوتينية لن تتوقف عن بذل كل جهد ممكن للإضرار بأمريكا داخليا وخارجيا.

***

واقع الأمر فرض على الرئيس ترامب أن تحتل كوريا الشمالية المكانة الأولى في جدول أعمال رحلته إلى آسيا. كان خطأ لعله متعمد. لم يفت على السياسيين والإعلاميين الآسيويين رسو حاملة طائرات أمريكية عند الأفق ليراها المؤتمرون ويصورها الإعلاميون لتراها بيونج يانج وسول. الرئيس ترامب لم يكن يود أن تنشغل لقاءاته بمشكلات أمن بحر الصين الجنوبي والأعمال الإنشائية الصينية فيه. أراد، بعقل التاجر ورجل الأعمال، أن لا تكون هناك قضايا تساوم بها الصين على حساب مسائل التجارة بين البلدين، وبخاصة مسألة فتح السوق الصيني أمام التجارة والاستثمارات الأجنبية. لاحظ الأمريكيون على مر الشهور الماضية أن الصين لم تتنازل أمام ضغوطهم فتضغط بدورها على كوريا الشمالية لصالح واشنطن. لاحظوا خلال الأيام الأخيرة أن كوريا الشمالية توقفت تماما عن إطلاق الصواريخ بمناسبة انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في بكين. هل كانت بادرة مقدمة من حزب شيوعي إلى حزب شيوعي آخر، أم كانت استجابة لطلب صيني ليتركز الاهتمام العالمي على المؤتمر وليس على المواجهة بين أمريكا وكوريا الشمالية. أيا كان الحال لم تدع الصين فرصة تمر دون أن تذكر كلا من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة أنها لن تتعايش مع درع الصواريخ الذي تقيمه الولايات المتحدة على مقربة من حدود كوريا الشمالية التي هي قريبة جدا من حدود الصين. تعرف بكين أن كوريا الجنوبية نفسها غير متحمسة لإقامة الدرع ولكنها وافقت تحت الضغط الشديد الذي مارسه ترامب شخصيا على حكومة سول، وافقت أيضا عندما شعرت بتفهم الصين لموقف سول من الصفقة فلم تجعلها قضية حيوية في العلاقة بين البلدين. بمعنى آخر فضلت بكين المحافظة على العلاقات التجارية عن إثارة قضية الدرع. من ناحية أخرى راح ترامب يمارس على حكومة طوكيو أضعاف ضغطه على سول ويحاول ممارسته بدرجات أخرى على حكومات جنوب شرق أسيا. هذه المؤتمرات بالنسبة لترامب هي فرصة لعقد صفقات تستفيد منها شركات الأسلحة الأمريكية ويستعيد بها قاعدته الانتخابية. وفي هذين المؤتمرين الآسيويين كان الخوف من كوريا الشمالية فرصة لا تعوض للاستفادة من انعقادهما على مشارف أزمة نووية على هذ النحو من الخطورة.

***

فلاديمير بوتين كان هناك. أعتقد أنه حاول أن يتفادى الظهور بمظهر المزاحم لكل من الرئيسين شي وترامب. ترك لهما الساحة يمارسان فيها بحرية سباق نفوذهما وتنافسهما. لم يتدخل في شأن أو آخر من شؤون الإقليم إلا نادرا. أراد أن يقول إن روسيا لم تصنع بعد رؤية لها هنا في جنوب آسيا. أحلامها ورؤاها تتركز هناك في إقليمين بارزين، أوروبا والشرق الأوسط. أما استقرار أمريكا الداخلي فيبقى له في أحلام الرئيس بوتين وضع خاص.

إن كشفت لقاءات فيتنام ومانيلا وبكين عن أمر بالغ الأهمية أو أعادت تأكيده فهو أن الحلم الصيني الذي صاغه الرئيس شي لن يتحقق إلا إذا عادت أمريكا عن سياستها الانعزالية أو تغيرت قيادتها.

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version