طلال سلمان

عالم في انتظار من ينظمه

سمعت وقرأت ما يكاد يلامس مرتبة الشعر في وصف مزايا وخبرات المستر أنتوني بلينكن المرشح لتولي منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية.

أتفهم الآن إقبال الكثيرين من هواة ملاحقة تطورات العلاقات بين الدول على تجميع كل المعلومات الممكنة عن هذا الرجل، فهو الخبير والسياسي المخضرم المكلف بمهمة لعلها بين الأهم والأخطر في كل المهام التي تحمّل مسئولية تنفيذها وزراء خارجية أمريكيون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لا أبالغ أن وضعت نفسي في صف الذين يعتقدون أن من يقبل تولي هذا المنصب في الظرف الراهن، ظرف الانتقال من إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إدارة جوزيف بايدن، لا شك يدرك أن مكانته في التاريخ ترتبط بأحداث وتوقعات لا تقل أهمية عن أحداث وتوقعات تحولت إلى إنجازات ارتبطت بها مكانة كل من جورج مارشال، صاحب مشروع انعاش أوروبا الغربية، ودين أتشيسون، مهندس الحلف الأطلسي والقوة الدافعة وراء إقامة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أحداث وإنجازات أخرى صاغت سمعة ومكانة وزراء آخرين مثل الوزير الأسطورة هنري كيسنجر ومنها التمهيد لمرحلة وفاق مع الاتحاد السوفييتي مهدت بدورها لمرحلة تشجيع الصين على الاقتحام السلمي للنظام الدولي، وهو الإنجاز الذي يعادل في تداعياته مشروع مارشال وإنشاء حلف الأطلنطي. أتساءل مثل كثيرين إن كان المرشح بلينكن واع تماما لأهمية وخطورة المهمة التي كلفه بايدن بأدائها وهي ـ وبعبارات صاغها بلينكن ـ “… سوف نتدخل.. أحببنا أم كرهنا.. فالعالم ببساطة لا ينظم نفسه بنفسه..”.

***

أتعامل أحيانا مع دبلوماسيين أمريكيين متقاعدين. أستفيد من تحليلاتهم الخالية من انفعالات المصلحة الشخصية وتعقيدات وحساسيات الوظيفة وإن لم تتخلص تماما من بعض دواعي الأمن القومي التي كثيرا ما تلاحق آراء ومواقف المتقاعد الدبلوماسي كما المتقاعد العسكري. حملت الغالبية العظمى من الآراء التي سمعتها نبرة إشفاق واضحة على الوزير الجديد. يتوقعون صعوبات جمة، هي الآن في انتظار تسلمه المسئولية. أغلب هذه الصعوبات، ويصح اعتبارها تحديات، تضاف إلى تحديات فرضتها ظروف سياسية من صنع مرحلة الانتقال الحرجة التي يمر فيها النظام الدولي.  بعض هذه الصعوبات داخلي وبعضها، وقد يكون هو الأكثر عددا وأهمية، خارجي.

***

الصعوبات الداخلية، وأقصد بالداخلية تلك التي تتعلق مباشرة بظروف عمل الدبلوماسيين العاملين، وهي  تعود  في الغالب إلى أسباب خمسة على أقل تقدير.

الأول، سوء المعاملة التي تلقاها الدبلوماسيون في ظل إدارة حاكمة لا تخفي ازدراءها اياهم.

الثاني، تراجع سمعة ومكانة الخارجية الأمريكية في نظر الإدارات ذات العلاقة بأنشطة وإنجازات العمل الدبلوماسي، والزيادة المتتالية في معدلات تدخل البيت الأبيض وجهات حكومية أخرى في تنفيذ مهام خارجية بعلم أو بدون علم الإدارات المختصة في وزارة الخارجية.

الثالث، أخطاء تراكمت خلال ممارسات وزراء خارجية عيّنهم الرئيس ترامب مخلفة آثارا وخيمة على أسلوب العمل في الوزارة، وأخطاء نتيجة هيمنة أسلوب الشعبوية في الحكم على أساليب العمل الدبلوماسي، ومنها الفوضى التي ضربت السياسة الخارجية الأمريكية في مواقع عديدة مثل كندا والمكسيك والشرق الأوسط وكوريا ومؤتمرات القمة.

الرابع، تدهور أحوال البعثات الدبلوماسية في الخارج إلى حد الشعور بنقص الأمان في مستقبل المهنة والأمن في العمل. النموذج المعبر أكثر من غيره كان الأثر الناتج عن تخبط البيت الأبيض ووزراء الخارجية في إدارة الرئيس ترامب في الإدلاء بتصريحات متناقضة عن انتشار القوات العسكرية الأمريكية في الخارج وبخاصة في الشرق الأوسط وعن الوجود الأمريكى نفسه في هذا الإقليم.

الخامس، الوضع المالي والتقتير المتوالي في الإنفاق على بنود العمل الدبلوماسي مثل بند المعونات المخصصة لبرامج تنمية في الدول الفقيرة وبعض الدول الحليفة.

***

هناك صعوبات أخرى تتعلق بظروف الداخل الأمريكي الضاغط بشكل غير مباشر على عمليات السياسة الخارجية منها على سبيل المثال:

(1) مزاج عام سائد في كل طبقات المجتمع غير موات للتدخل في الخارج عسكريا وماليا، ورأي مهيمن بين عناصر اتخاذ القرار في الكونجرس وصناع الرأي فاقد الثقة في قدرة الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصصة على أداء وظائفها، ومدرك أن الحلفاء لم يسددوا مساهماتهم على النحو المقرر وبعضهم مارس الابتزاز ضد الولايات المتحدة؛

(2) رأي عام غير مطمئن إلى كفاءة وأخلاقيات الطبقة السياسية الأمريكية التي قادته من فشل إلى فشل منذ  انطلاق مرحلة القطبية الأحادية، الانطلاق الذي تزامن مع تفجير أبراج نيويورك، والوقوع في براثن حروب إحداها في أفغانستان لم تتوقف وأخرى جلبت على أمريكا الاستنكار والخزي، وهي حرب العراق التي لطخت أكثر  من غيرها صورة أمريكا ومنظومة قيمها، وانتهاء بظهور قوى وتيارات شعبوية وقومية متطرفة وجماعات بميول عنصرية. كلها وغيرها اشتركت في تشكيل ضغوط انعزالية.

***

أما الصعوبات الخارجية التي تنتظر السيد بايدن ووزير خارجيته ومعاونيهما فلا تخفى أهميتها على قارئ السياسة الدولية سواء كان في روسيا أو الصين أو في قاعات الدرس في هارفارد وصالات الحوار في مراكز العصف الفكري. أولها وأهمها حال الفوضى الراهنة في العلاقات الدولية التي لم يشهد العالم مثيلا لها ربما منذ سنوات سبقت الحرب العالمية الأولى وسنوات ما بين الحربين العالميتين وسنوات صعود الثورة البلشفية والفاشيات الأوروبية وتجربة الانعزال الذاتي الأمريكي.

الصعوبة الثانية، وهي أيضا من أهم التحديات التى تنتظر الإدارة القادمة، هي حال نظام التحالفات الذي التزمته الإدارات السابقة منذ أواخر الأربعينيات والذي تعرض في السنوات الأخيرة لتشققات واضحة ولأسباب متباينة. الحلفاء مختلفون في ما بينهم وهم أيضا، أو في أغلبيتهم الساحقة، مختلفون حول إدارة الفراغ الذي خلفه غياب أمريكا عن ممارسة دور القيادة خلال عهد الرئيس ترامب. هم مختلفون أيضا حول ما هو أهم كثيرا من مسألة الأنصبة المالية وتوزيع المهام الأمنية، مختلفون حول الجوهر الأيديولوجي للتحالف، أقصد الالتزام بالديموقراطية. هناك الآن انشقاقات واضحة حول هذا الأمر. الأوروبيون مختلفون أيضا مع الدولة العميقة في أمريكا وفي ما بينهم حول العلاقة مع روسيا. هذه المسألة التي تأبى إلا أن تكون الركن الركين في علاقات القوى العظمى سواء كان الشيوعيون في الحكم في موسكو أو كانوا من القوميين غير الشيوعيين.

الصعوبة الثالثة سوف تقابل حكومة بايدن فور تسلمها السلطة. فقد نجحت إدارة ترامب وعدد لا بأس به من ممارسات حكومة بكين الداخلية والخارجية على حد سواء في تعزيز الشكوك في عدائها للولايات المتحدة. الصين، حسب أي تعريف سائد، هي الآن عدو للولايات المتحدة. رضيت واشنطن واستعدت أم لم تستعد. الظاهر على كل حال أن بايدن ومساعديه سوف يجدون حلفاء أمريكا في جنوب شرق آسيا، بفضل “تهريج” ترامب ووزرائه، منفرطين بما سمح لبكين بتأكيد استعداداتها لفرض الهيمنة على الإقليم، وإعلان تحديها لاستراليا منافسا لها أم عدوا.

التحدي الرابع أو الصعوبة الرابعة، يعرف بايدن وبلينكن الشرق الأوسط حق المعرفة، أحدهما لخبرة طويلة في مجلس الشيوخ ثم نائبا لأوباما في الحكم والثاني ممارسا عن قرب لبايدن سنوات عديدة فضلا عن، وهو الأهم ربما، ولاءه المزدوج، وهذا ليس اتهاما بل واقع عاطفي علمتنا تجارب القرن وصراعات الشرق الأوسط أن نحسب له ألف حساب. ومع ذلك أظن أنه رغم التعقيدات التي سيخلفها الرئيس ترامب وعائلته في قضية الصراعات الإسرائيلية العربية والشرق أوسطية بشكل عام إلا أن بايدن ووزير خارجيته لن يستطيعا المساس بمكاسب إسرائيل التي حصلت عليها خلال الأسابيع الأخيرة من حكم ترامب.

***

كثيرة وصعبة التحديات التي تنتظر السيد جوزيف بايدن وجماعته، تزداد صعوبتها إذا أضفنا إليها غزوة فيروس الكورونا والمشكلات الكونية الأخرى، وأضفنا أيضا المقاومة الشرسة التي يستعد السيد دونالد ترامب لمباشرتها بمساعدة جماعات مصالح بعضها لن يتردد في استخدام العنف لتحقيق حلم استعادة أمريكا الدولة الأعظم.

ينشر بالتزامن مع “الشروق” المصرية

Exit mobile version