طلال سلمان

طلائع حب

أحيانا تتصرف معي تصرفات من يعرفني أكثر مما أعرف نفسي. تقرأ في عيني أسرارا لم يطلع عليها أو يدري بوجودها أحد. بعض هذه الأسرار لم أتعمد إخفاءها. منها علاقات وأنشطة بدأت قبل سنوات وبدت وقتها عادية ومألوفة. ثم امتدت إليها يد التطوير أو التغيير فتطورت أو تغيرت ومعها أو بسببها تطورت أنا أو تغيرت. في حالات كثيرة لم ألاحظ التغيير وإنما كنت أنت غالبا أول من نبهني إليه. تطورت ولم أنتبه.  نضجت ولكن لم أزداد حكمة. تغيرت فازددت قبولا مطلقا وحاسما لدى كثيرين ومترددا لدى قليلين. كنت أنت من واجهني بأن الحكمة عندي لم تتقدم بينما تفوق الجمال مع الجاذبية، تفوق الجمال على ما كان متوقعا  منه وتفوقت الجاذبية على ما كان محسوبا لها أن تكون. تكونت لي شخصية جديدة. هذه عبارات استعيرها منك. خرجت من فمك هي وعبارات أخرى في يوم لن أنساه، يوم تعرفت في وجودك على رجل أحلامي.

•••

نعم. كنت معك في ذلك اليوم. أذنت لي بالجلوس في المقعد الملاصق. ابتسمت وأنت تأذن. وابتسمت أنا أيضا وأنا أسارع بالجلوس قبل أن تأتي أخرى فتسبقني إليه. أذكر أنك علقت في مرة سابقة على سماحك لي بالجلوس إلى جانبك. قلت متسائلا أتعرفين أن موافقتي على طلبك أن تجلسي على المقعد الملاصق لمقعدي  تعتمد على حقيقة أنك بجلوسك فيه تحميني من متطفلات ومتطفلين كثيرين وزميلات وزملاء وباحثات  وباحثين من كافة الأعمار كانوا سيطلبون الإذن بالجلوس إلى جانبي على امتداد ساعات انعقاد المؤتمر وربما بعده. يذهبون ومعهم رقم هاتفي المحمول والأرضي أيضا وعنوان بيتي أحيانا. يعتمد أيضا على حقيقة أخرى وهي استمتاعي بقدرتك الفائقة على الابتكار، ابتكار الأفكار والبدائل والتعليقات المناسبة.

أضافت كلماتك إلى مخزون ثقة أعتز به وأثارت فيضا من غرور لا أعتذر عنه. ترددت قليلا قبل أن أرد عليك بلهجة متخابثة ومتسائلة إن كان معنى هذا أنك تفضلني على كل المحيطات والمحيطين بك من رواد هذه الاجتماعات. أتذكر كيف جاءت إجابتك سريعة وصريحة وصادمة. أذكر أنك قلت “نعم يا طفلتي أفضلك على الكثيرات والكثيرين، ولكن هناك حقيقة أخرى وهي أني رأيت في عينيك رغبة للجلوس بجانبي ليحسدك زميلاتك وزملائك على نجاحك في احتلال هذا المقعد المتميز، النجاح الذي يشير إلى أن لك مكانة خاصة عند جارك المرموق”. صدقت وأحسنت. لا أحد لمحنا عن بعد أو رآنا عن قرب إلا وجاء ناحيتنا ليحييك. بعضهم حياني ضمنا بهز الرأس وبعضهم بابتسامة وبعضهم لم يستطع إخفاء فضوله فتلعثم في إلقاء كلمات التحية أو مد يدا مرتعشة ناحيتي لأسلم عليه باليد وانطق باسمي ردا على تعريفه لنفسه.

•••

واحد فقط حياك باحترام شديد ولم ينظر ناحيتي. ضايقني هذا التصرف فاقتربت منك أكثر كما لو كنت أنوي الإدلاء بهمسة في أذنك. هذا الواحد القادم لتحيتك بدا كمن يتعمد إنكار وجودي. أنا، الفتاة الجميلة الجذابة الجالسة إلى جوارك. لم أتحمل هذا التجاهل من جانبه. شعرت بالدم يصعد متدفقا بسخونة إلى رأسي. بحثت في عينيك عن موقف لك أو رأي. تعودت على ألا تفوتك معاني حدث كهذا. خيل إلي أنك قررت أن الاثنين، الشاب الغريب وأنا، تكاد  تقتلهما الرغبة. يريدان منك أن تبادر فورا فتعرفهما ببعض. وهذا ما فعلت بالفعل ولكن ليس على الفور.  تركتنا مع ظنوننا  ثوان معدودة في حساب الواقع ولكن لا نهائية في حساب  الخيال والانبهار والشكوك والتوقعات. خفت لثانية أن تفضحني نظراتي إليك فأبدو أمام الغريب متسولة تنتظر منك استجابة كريمة. وللحق كنت أحلم ببادرة عطف، ولو قطرة منه. عجيب كان أمري وتصرفي في تلك اللحظة. أنا الواثقة من نفسها القادرة والمهيمنة على كل ما حولها أو أكثره، تخشى أن تكون بدت أمام الواحد الغريب وأمامك تتسول اهتماما.

•••

تجربتي الطويلة معك تجعلني لا أشك في أنك لاحظت أنني أكاد أفقد اتزاني. اعترف لك الآن أنني خلال تلك الثواني لم أحاول أن أتبين هويته. لم أهتم إن كان رب عائلة أو أعزب حوله من النساء ما لا يعد أو يحصى. لم أحاول أن أدقق لأتبين. لم أشأ إضاعة الثواني في التدقيق والبحث فتضيع فرصة التركيز عليك  لتستجيب، وأنت لا تستجيب. ماذا تفيدني معرفة هويته؟ لا أخفي عليك أن انبهاري بما رأيت في الثانية الأولى أغناني عن التفاصيل، وأول التفاصيل كما يقولون هي “وقفة” الرجل. غلبني شعور الواثقة من أن هذا الشخص الواقف أمامك لا يعيبه شيء. هو التجسيد لكل ما تمنيت في أحلامي من صفات لحبيب سوف يظهر أمامي ذات يوم. ها هو وقد ظهر.

الثواني تتلاحق وقد يقرر المغادرة فيضيع مني. عدت أركز عليك في محاولة جديدة لجذب انتباهك إلى توسلاتي الصامتة. كم وددت لو سمعتني انبهك إلى أن الأحلام من هذا النوع لا تتكرر إذا أخفقت في تحقيقها حلما بعد حلم. البطل يظهر مرارا في أحلامنا آملا في أن نسمح له باقتحام حياتنا ليصبح حقيقة واقعة فإن فشلنا أو تأخرنا رحل عنا رحيلا لا عودة فيه. ويلك يا أغلى الأصدقاء. من فضلك أفعل شيئا. استدر نصف استدارة وانظر في وجهي لتقرأ رسالتي. وبعدها عد إليه، أعدك بأنك سوف تقرأ في عينيه نفس ما قرأت في عيناي. سوف تقرأ رسائل رغبة تتحول أمامك بدون خجل إلى رغبة عارمة ومن رسائل رغبة عارمة إلى رسائل حاجة وهذه أخشى أن تتحول إلى فعل مجنون إذا استمر تجاهلك لها أو استخفافك بها.

•••

مسئوليتك كبيرة عن إثارة وتكوين هذه الكتل المتحركة من المشاعر، إعجاب فانبهار فرغبة، كلها تجتمع في  النهاية عند الشعور بالحاجة الماسة إلى رجل بعينه ولا أحد غيره أو إلى امرأة بعينها ولا امرأة غيرها. لو أنك بادرت لحظة وصوله إلى مائدتنا ووقوفه أمامنا بتعريفنا الواحد بالآخر لما تطورت المشاعر على هذا النحو وإلى هذا الحد. هل من يضمن الآن أن لا ترتعش يدي إذا أنت دعوتني أو دعت الضرورة  لمصافحته، وهل من يضمن أن لا تتخلى عني جفوني إذا التقت أبصارنا فأفقد فرصة اختراق أستاره والغوص في أعماق عقل هذا المخلوق وقلبه. هل من يضمن أن لا يتصبب فوق جبيني عرق وتنهمر على خداي دموع فتنكشف  أمامه وأمامك مشاعر حاولت إخفاءها بكل ما أوتيت من كبرياء وغرور.. لم يصمد أي منهما، لم يصمد الغرور ولا صمدت الكبرياء. هذه طلائع حب يا صديقي. أرجوك بل أتوسل إليك أن ترفع عني حمايتك. نعم أنا الآن ضعيفة. ولكن أليس هو نفس الضعف الذي لازم أحلامي. أريده يبقى.. دعه يبقى…  

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version