طلال سلمان

صورة في برواز بين الكتب

مررت أمامها بعدد مرات دخولي غرفة مكتبي على امتداد عقود. أمر عليها مرات خلال النهار ولا أتوقف لحظة أمامها. هذا الصباح استثناء.  اليوم توقفت أمامها منبهرا ولا أقول معجبا. إنها صورتي بالألوان داخل برواز بلون الذهب “المطفي”. يصطف البرواز أمام الكتب بين تماثيل خشبية وحجرية ترمز إلى آلهة من التبت والهند وجنوب آسيا. وقفت هذا الصباح أمامه لثواني معدودة وكأني أرى الصورة لأول مرة. ارتحت للابتسامة التي رأيتها على وجهي في الصورة قبل أن انتبه إلى حقيقة ما عرف عني بين الأهل والمعارف. يتردد بين هؤلاء أن الصور التي التقطوها لي أو نشرت لي خلال الفترة من عمري التي سبقت حاجز منتصف العمر لم أظهر في واحدة منها مبتسما. أما بعد الحاجز ففي كل الصور التي ظهرت فيها منفردا أو بصحبة آخرين ازدان وجهي ببسمة من نوع أو آخر.

هناك مبالغة فيما تردد، وما يزال يتردد، بين الأقربين حول ندرة مرات حضور بسماتي في مرحلة من حياتي ووفرة حضورها في مرحلة أخرى. أظن أن في تاريخي الشخصي ما يبرر المبالغة إن وجدت. لمن لم يعش معي عمري كله أقول له، أنا عشت حياتين. أقصد عشت مرتين في حياة واحدة. أقصد، قضيت النصف الأول من عمري بمزاج وقضيت النصف الثاني بمزاج مختلف تماما فكأني عشت النصف الأول بشكل وعشت النصف الثاني بشكل آخر.

أذكر أنني كطفل ثم كمراهق في سن البلوغ ثم كمراهق يافع جسما وعقلا كنت إنسانا يغلب على تصرفاته سلوك الانطواء وعلى نفسيته طابع الحزن وعلى تفكيره نمط الجدية الشديدة. كنت مع أصحابي أهتم بحل مشكلاتهم، يستشيرني ذووهم لمعرفة ما وراء انحراف الابن أو الابنة؛ سواء بالتشدد في تنفيذ التعاليم أو بالتراخي في تطبيقها. يطمئنون لانضباط سيرتي وحسن سلوكي. لم يدركوا كما لم أكن أدرك أنا نفسي أن ما يعتبرونه حسن سلوك كان في عرف آخرين وفي عرفي الآن تخلفا في استقبال العواطف وفي التعبير عنها. عشت النصف الأول من عمري أغرق النفس في التعاسة. أقضي وقت فراغي أسعى وراء المزيد منها. إن عشت ليلة سعيدا أضعت النهار التالي في شكوك وظنون وحيرة في فهم ما حدث بالليل وتبعاته. لا يمر النهار ونصل إلى الليل إلا وقد عوقبت على ما فعلت. أحاكم نفسي بنفسي أحاسبها وتحاسبني. أغضب منها وتغضب مني. في النهاية أقضي الساعات الأولى من الليل أتقلب في فراشي، أخاصم النفس وأعذبها حتى ينهك الجسد والنفس معا. لم أعرف إلا بعد سنوات كثيرة أنني ظلمت نفسي عديد المرات. عرفت أن كثيرا من الأخطاء أو الخطايا التي اتهمت نفسي بارتكابها أصدرت فيها أحكاما ظالمة وفرضت على النفس عقوبات لا تستحقها. عرفت أيضا أنني حرمت نفسي من متع تأتي طبيعية ومنطقية في سياق مرحلتي المراهقة والشباب وهي إن أتت في مراحل أخرى استحقت التأنيب إن لم تستحق عقابا أشد. بعض عذري إن أخطأت وأنا في سن متقدمة هو أنني لم أسمح لنفسي في سن المراهقة ومطلع الشباب بمزاولة حق ارتكاب الخطأ ببراءة وسماحة النفس والروح وبعيدا عن أساليب القمع الذاتي.

عدت بعد جولة مطولة في صناديق وحقائب صور من الماضي، ماضي ما صار يعرف عندي وعند الأقربين بمرحلة ما قبل منتصف العمر. عدت لأقف ربما لأول مرة، أمام الصورة التي بداخل البرواز. شتان ما بين صور الماضي وهذه الصورة. استغربت نفسي في صور الماضي. هل صحيح قضيت النصف الأول من عمري دون بسمة تلامس شفتاي. كيف تحملت أن أرى نفسي بوجه عابس طوال السنين. لماذا تأخرت كل هذه المدة قبل أن أعلن تمردي على ما مضى وأقرر الاندماج في تيار النضوج المبتسم. بدا لي لبعض الوقت وأنا أقلب صفحات ألبوم الصور القديمة لعائلة أبي أن العبوس كان من شيم الراغبين في التقاط الصور لهم والمقبلين عليه. رأيت فيما أري صورة جدتي لأبي وقد جلست على مقعد خشبي مرتفع وفي يدها اليمنى بندقية وعلى وجهها سمات من يعني ما يفعل وما يقول. وجه لا يعرف المزاح أو الفكاهة أو التعاطف تكسوه مساحيق يبدو أنها كانت تصنع خصيصا لإبراز القسوة وإثارة الرهبة في نفوس الصغار من الجنسين وربما الرجال أيضا. الغريب في الأمر أن جدتي لأمي بدت دائما في الصور النادرة التي وقعت في حوزتي راضية. كانت في الواقع مسيطرة مثل جدتي لأبي ولكن برضا وهنا وحنان، وإن بدون ابتسامة.

كعادتي وبينما كنت أنظر إلى صورتي داخل البرواز راح خيالي يسرح في المستقبل. تخيلت بعضا من ذريتي يقف أمام هذا البرواز الذهبي متأملا في تفاصيل الوجه الذي يطل عليه من داخله. يتأمل ويتساءل منشغلا بمحاولة حصر وتفسير جوانب في شخصية الجد صاحب هذه الصورة الذي هو أنا. ثم يقارن هذه الجوانب بجوانب اكتشفها في شخصيات الآخرين من العائلة نفسها وأصدقائهم ويخرج بتعميمات ونظريات. سوف يجد بين هذا البعض من الأحفاد وذرياتهم من يعرف قليلا عن الكتابة ليجلس ويسجل هذه الانطباعات ليخلص بقناعات تبرر له ولآخرين بعض صفاته وسلوكياته وطباعه، يعيدها إلى جدود وجدات وظروف عامة وخاصة وسياقات سياسية واقتصادية.

الصورة، أي صورة، مهما أبدع المصور ومهما استحسن واستخدم من تكنولوجيات هذا الفن العظيم، ومهما بذل صاحبها من جهد لتجميل الوجه وإخفاء العيوب وافتعال البسمة، تبقى الصورة جهدا ناقصا. ليس كل ما في النفوس تصل إليه عين المصور. النفس عادة ما تحتاط لخصوصيتها من كاميرات المصورين محترفين كانوا أم هواة ومن نظرات الفضوليين وذوي المصلحة والمشفقين والمحبين بل وأصدق العشاق والمولعين.

فكرت أن أسأل من حولي عن من قرر أن يعلق على حوائط بيتي وفوق أرفف مكتبتي رسوما لشخصي بالألوان أو بقلم الفحم وصورا فوتوغرافية بعضها يحكي أشياء والبعض الآخر عنيد في صمته أو ممل في حذره. تعرف فورا إلي أي عصر في عمري تنتسب هذه الصورة وتلك. أهتم أحيانا بالصور مجاملة للضيف المهتم إن سأل واستفسر. يحدث كثيرا أن أعبر عن سعادة مختلطة بالفخر في إجابة استفسار عن هوية رسام رسم لوحة بعينها. اللوحة تصورني في وضع كاتب يكتب والرسام ابنتي والعصر ينتمي إلى النصف الثاني من العمر.

علمتني الصحافة أهمية الصورة ولكن ليس أي صورة، إنما الصورة التي تقول شيئا. كنت أقلب قبل أيام في حقيبة عن وثيقة وأوراق. وجدت في الحقيبة صورا بالمئات بعضها لم تلمسه يد ولا رأته عين منذ عشرات السنين. شدني الحنين إلى مجموعة بعينها من الصور. كانت صورا عن رحلة صحفية وبحثية في الصين. لاحظت أنني رحت أمر على أغلبها مرورا سريعا بدون انفعال يذكر ولكني توقفت لأنظر مليا في صور تصورنا جميعا أعضاء الرحلة أو تصور أحدنا وقد وقفنا شهودا في قاعة محاضرات اتسعت لأكثر من خمسين شخصا، كلهم يرتدون بدلات زرقاء، كلهم بتصفيفة شعر واحدة، كلهم بسمات وأوصاف رجال ونساء دولة وأساتذة جامعات وفنانون وعلماء وقادة عسكريون، كلهم يجلسون القرفصاء، وكلهم يتناوبون النهوض لإلقاء اعتراف وجيز بخطأ أو معصية ارتكبها الواحد منهم في حق الجماعة التي ينتمي إليها أو في حق الشعب ثم تجري مناقشة قصيرة حول الاعتراف وحجم الضرر الذي تسبب فيه الشخص. إحدى الصور التقطت لنا أعضاء الفريق الزائر وقد تأثر بعضنا وله مكانته الكبيرة في مصر وفي الإعلام المصري بشكل خاص فاختار جلسة القرفصاء احتراما للقاعة وحضورها المهيب. قضيت ساعة أو أكثر أقلب بسرعة في صور هذه الزيارة لمعسكر التهذيب المعنوي والايديولوجي في أحد ضواحي مدينة بكين في زمن الرئيس ماو، باستثناء مجموعة صور كل واحدة منها توجز في نظرة واحدة إليها مرحلة هامة في تاريخ أمة من أعظم الأمم.

أحيانا تكون الصورة الواحدة شاهدا كافيا في كتابة التاريخ.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version