طلال سلمان

صورة على شاطئ أوستيا

وقعت على هذه الصورة بينما كنت أبحث بين أوراق حياتي عن صور يستفيد بها المحرر المكلف بإعداد ونشر مخطوطة عن علاقتي بالصحافة يعدونها للنشر. لم تكن مهمتي في البحث بسيطة فالصور بالمئات وربما بالآلاف مبعثرة في أكوام من أوراق لا يربطها ببعضها عمر أو مرحلة أو مهنة بعينها. أعترف أنني لم أحسن التدرب على ترتيب أوراقي ناهيك عن توثيقها وحفظها رغم أنني بدأت حياتي العملية في حوالي السابعة عشرة من عمري “صبي مكتبة” حسب التوصيف الأمريكي لوظيفة هي في الواقع أقل درجة من وظيفة المتدرب في مهنة أمناء المكتبات العامة.

أما الصورة فهي لرجل أسمر حلوة تقاطيعه يجلس مع طفلين بديعين ككل الأطفال في عمرهما في أكثر الصور الفوتوغرافية. أحد الطفلين أسمر سمرة الرجل الجالس بينهما والطفل الآخر أبيض بلون من وقف ليصورهم وجميعهم بثياب الاستحمام ووراءهم البحر لا يشغلهم وجوده عن الاستمتاع بأجواء المصيف وصحبة المصيفين وتبادل إشارات التعاطف والمودة معهم.

***

بدا لي أثناء البحث أن صورا أخرى عديدة لا شك التقطتها وضاعت. الغريب في الأمر أن عملية التصوير وقد مضى عليها ما يزيد على 63 عاما وبآلة تصوير تقليدية جعلت الصورة الصماء تتحول في يدي وفي نظري إلى ما يشبه فيلم سينمائي يحكي نتفا من قصص عديدة وفريدة بشخوصها ومواقعها. هذه النتف وربما بعض القصص كم تمنيت أن أحكيها على مشاهدي الصورة كما وقعت أو بتعديل بسيط إن دعت الضرورة أو إن فرض الغموض مشيئته علينا، كنا مؤلفين أم محررين أم حكائين.

***

الشاب في الصورة سوداني العائلة يعمل بوزارة الخارجية سائقا وانتدب ليعمل بالسفارة المصرية في روما. طلبت منه أن يخصص لي يوما من أيام إجازاته ليصحبني وإبني ومعنا إبنه إلى الشاطئ الأقرب إلى مدينة روما والمعروف بشاطئ “أوستيا” نسبة إلى الضاحية التي تحتضن هذا الشاطئ الرملي الرائع. كان الطقس بديعا على عكس الطقس الذي تركناه في العاصمة.

***

لاحظت من اللحظة الأولى لنا على الشاطئ أن حركة غير عادية تحيط بموقعنا الذي اخترناه منعزلا بعض الشىء. كثيرات من المصيفات تقدمن لتحيتنا دون معرفة مسبقة بي وأنا الحديث وصولا إلى إيطاليا. تعمدن التوقف أمام السائق والتحدث معه بالإيطالية التي لم أكن أمسكت بعد بمفاتيحها. لم أشأ التدخل كعادتي المفرغة من نعمة الفضول ولكنه تطوع بعد قليل بإبلاغي أنه بدأ مهمته، في هذه المدينة الخالدة بحق، شابا أعزب ومنذ وصوله شاءت الظروف أن يتعرف على فتيات إيطاليات كثيرات.

***

قيل لي أن كبير السعاة، وجميعهم في ذلك الوقت سودانيون بالنشأة أو نوبيون مصريون بالتنشئة، نصح السائق بعد عامين من العمل بالسفارة أن يطلب إجازة ويسافر إلى السودان وأن لا يعود إلا وقد عقد على إحدي قريباته. يعود وهي معه فالآخرون يتزوجون ويتركون زوجاتهم في السودان أو في بلاد النوبة. استفسرت من هذا الكبير وكان يحظى باحترامنا ليس فقط لأنه الأقدم في السفارة والأكثر دراية بروما وطبائع أهلها وخفاياها ولكن أيضا لأنه كان بالنسبة لنا، نحن شباب الدبلوماسيين بالسفارة، الناصح الأمين في بعض شئوننا ومشاكلنا. استفسرت فقال “نعم أعدته إلى العائلة ليتزوج حماية له وللسفارة من عواقب عزوبيته في مدينة وفي طبقة وفي مرحلة اختصته جميعها وأشهرته بكونه الشاب المصري الأسمر والأكثر وسامة وجاذبية لمعشر الجنس الآخر في روما”.

استطرد قائلا:” لم أتحرك إلا بعد أن أبلغتني سكرتيرة السفارة ثم سكرتيرة السفير أن ممثلات من المشاهير الذين أفرزتهم المرحلة، مرحلة الحياة الحلوة، ممتزجة بالمعجزة الاقتصادية الإيطالية، يتصلن بإلحاح إذا هو تأخر في الرد على مكالماتهن أو حاول التفلت من ملاحقاتهن. خفت المطاردات قليلا بعد زواجه أو أنه صار، وصارت المعجبات، أكثر حرصا”.

يقول السائق الشاب أن المطاردات خفت، أما أنا، كاتب هذه السطور، فأقول إنه على امتداد ثلاث سنوات قضيتها في روما بعد واقعة الرحلة مع السائق والطفلين في شاطئ أوستيا لم يتوقف الأصدقاء الإيطاليون والزملاء الدبلوماسيون الأجانب عن السؤال عن “ش” السائق الأشهر في مجتمع السلك الدبلوماسي إن غاب عنهم لتوعك أو زحمة عمل أو لسفر خارج المدينة.

***

كانت بالفعل السفارة الأكثر شعبية بين قريناتها من سفارات مصر بالعالم بأسره. ليس فيما أقر هنا مبالغة مقصودة أو تفخيم متعمد. صحيح كان “ش” سببا في هذه الشهرة ولكنه لم يكن السبب الوحيد. كانت السفارة المصرية موضوع حسد عديد الدبلوماسيين الأجانب، لوقوعها في قلب غابة هائلة الاتساع في قلب روما وعلى الطريق الدولي الرئيس الذي كان يربط بين العاصمة والموانئ الجنوبية المطلة على البحر الأدرياتيكي منذ قدم التاريخ يحمل لها الملح ومنه اشتق الطريق اسم “سالاريا”. السبب الثاني وراء شعبية سفارتنا أننا كنا نحتل قصر آخر ملوك أسرة سافويا التي حكمت إيطاليا حتى هزيمتها في نهاية الحرب العالمية الثانية. هناك سبب ثالث ولا يقل أهمية، وهو الشعبية الفائقة التي كان يتمتع بها طباخ السفارة، على الأقل خلال مرحلة وجودنا فيها والمتوج في أوساط الدبلوماسية ومواقع صنع القرار في روما ملكا متوجا على عرش الطباخين في روما حتى انتزعته منها سفارة مصر في موسكو عندما تولى أمرها سفير قوي النفوذ منتهزا فرصة أتاحتها فترة انتقالية في روما بين سفير نقل وسفير لم يصل.

***

فكرت في كل هذه الأمور وأنا أجلس إلى مكتبي بضاحية الشيخ زايد أنظر إلى صورة فوتوغرافية من مقتنياتي ظهر فيها السائق “ش” المبرز في وسامته وإجادته الإيطالية ودماثة أخلاقه ومعه طفلان، إبنه وإبني، وهم معي يستجمون على شاطئ قريب من روما قبل أكثر من ستين عاما.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version