طلال سلمان

صفحة غير ناصعة في دفتر العلاقات الدولية الراهنة

قبل أكثر من خمسين عاما وصف هارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا العظمى علاقات بلاده بالولايات المتحدة بأنها تزداد مع مر الأيام شبها بالعلاقات التي قامت بين الرومان والإغريق في مرحلة صعود الإمبراطورية الرومانية. وقتها أخذ الإغريق على عاتقهم مسؤولية تعليم الرومان كيف يتصرفون في الإمبراطورية شاسعة الأطراف التي آلت إليهم مقابل الانتفاع بقوتهم لحماية شعوبهم وبعض ما تمتلك. نحن، ويقصد الإنجليز، نريد الاستعانة بقوتهم وهم، ويقصد الأمريكيين، يريدون أن يتعلموا أناقة التصرفات ولباقتها. لن أكون مبالغا إذا قلت أن هذه المصلحة المتبادلة بين نخب إمبراطورية ولى زمانها، وهي الإمبراطورية البريطانية وطبقة سياسية في الإمبراطورية التي حلت محلها، وهي الأمريكية، لم تعد ذات فائدة كبيرة لكلا الطرفين، ولا أظن أن الطرفين يحسبان لها حسابا عند إعداد أو تنفيذ السياسة الخارجية. أسباب ذلك، في رأيي، كثيرة اخترت من بينها الأكثر وضوحا.

أولاً: الطرفان انحدرا في تراتيب العلاقات الدولية. الولايات المتحدة تمر في مرحلة سبق أن مرت فيها بريطانيا العظمى عندما لاحت لقادتها علامات لا تقبل الشك تشير إلى صعود لقوة دولية أخرى نحو مكان ومكانة الدولة الأعظم، إما لتحتله كاملا إن اكتملت كل الشروط أو لتتشارك فيه مع قوى أخرى.

ثانياً: ضعفت ثقة كل طرف في القدرات الحقيقية للطرف الآخر. بريطانيا فقدت كثيرا من أرصدتها الدولية حين قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي ومن قبله لم تحظ بعلاقات طيبة مع أغلب مستعمراتها السابقة. لم تفعل بريطانيا رغم كل ما عرف عن حكمتها الأسطورية ما فعلته فرنسا حين ابتكرت صيغة مختلفة لتستمر في ظلها علاقاتها الاستعمارية بمستعمراتها السابقة، هكذا احتفظت بالمكانة وبالنفوذ والسيطرة والعائد الاقتصادي المتزايد بأقل تكلفة ممكنة. أما أمريكا فقد فقدت كبريطانيا شيئا غير قليل من مكانتها منذ بدأت تنسحب من مواقع ووظائف كانت تحتلها بصفتها الدولة الأعظم. وكنت أحد الذين برأوا دونالد ترامب من مسئولية إصدار إشارة بدء الانحدار الأمريكي. كان أوباما من أطلقها وكانت الحرب الأمريكية ضد العراق من وضع بذرتها.

ثالثاً: تغيرت أشياء كثيرة في التكوين السياسي والاجتماعي للدولتين خلال السنوات الأخيرة الأمر الذي ضاعف من سرعة ابتعاد الطرفين عن بعضهما البعض. بريطانيا، كما نرى وبوضوح، أصبحت دولة أقرب ما تكون إلى الدولة متعددة الأجناس والثقافات منها إلى دولة غربية بالمعنى الذي تعارفت عليه البشرية وعلماء الأجناس خلال القرون الخمس الماضية. هنا لن أختلف كثيرا مع معلقين اعتبروا السماح بزواج الأمير هاري من سيدة من أصول إفريقية تصرفا حكيما من طبقة سياسية واعية لواقع ديموغرافي واجتماعي جديد في المملكة المتحدة يجب التأقلم معه. حدث هذا على عكس ما يحدث الآن من قيادة سياسية في أمريكا مستندة إلى قاعدة شعبية مؤثرة قررت أن تسلك طريق المواجهه مع الأقليات غير البيضاء، هدفها وقف، أو على الأقل تأجيل، الاندفاع نحو مجتمع متعدد الأجناس البيض فيه أقلية.

رابعاً: الغرب، كواقع ثقافي وسياسي وكمفهوم حضاري، صار يعني أمورا كثيرة لنفس الناس. لم يعد خافيا أن الغرب اليوم لا يمثل الثقل نفسه الذي كان يمثله قبل عقود قليلة مضت. لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية استمرار الزعم بأنها هي الغرب، أو بأنها تقوده وتنطق باسمه وتتحمل مسؤولية الدفاع عنه وحدها كما كانت تفعل من قبل. كذلك لا نرى السيدة تيريزا ماي في موسكو أو سوتشي تحاول باسم القادة الغربيين إقناع الرئيس بوتين بوقف حربه السرية ضد الغرب. نراها فقط تبحث عن شركاء تجارة واستثمارات ومستوردي سلاح في دول خارج هذا الغرب المنحدر القوة والنفوذ.

خامساً: صارت الساحة السياسية في أمريكا شبيهة بالسيرك، كثير من الصخب والتهريج والتلاعب بالسياسات كما التلاعب بالكرات والبالونات الملونة، كثير من الأقنعة ومساحيق الوجه والكذب والتحايل ومحاولات لتخريب المؤسسات والسخرية من القيم، كثير من البيع العلني للذمم والضمائر والتزييف تحت عناوين شعبوية ولكن في الحقيقة غير صادقة النوايا مثل أمريكا أولا وأمريكا تعود أو أمريكا عادت. أكثر ما يهمنا في ألعاب هذا السيرك هي ألعاب السياسة الخارجية. صارت المفاجآت وشد أعصاب الرأي العام دليل عبقرية نظام الحكم في أقوى دولة في العالم. قرأت منقولا تصريح أو تعليق السيدة إنجيلا ميركيل عن تعقيدات صنع السياسة الخارجية في عالم اليوم قالت فيه ما معناه أنها كعملية سياسية أصبحت تعاني من غياب القدرة على التنبؤ، والسبب هو التصرفات “التخريبية” لكل من السيدين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في الساحة الدولية. أتمنى أن يكون هذا التصريح أو التعليق صحيحا أي غير مزيف مثل غيره من الأخبار التي تبدع الأجهزة الأمريكية والروسية في صنعها أو تزييفها ونشرها في كل أنحاء العالم. أتمناه صحيحا لأني شخصيا صرت أعاني من هذه المفاجآت المسرحية خلال جهودي التي أبذلها لفهم ما يحدث وما يدبر من سياسات ولست صانع سياسة أو قرار فما البال بصانع سياسة وقرار مثل السيدات والسادة ميركيل وماكرون وشي وترودو ومون وآبي ودي ميستورا. أسأل ولا يأتيني جواب، أسال عن مبرر معقول لإخراج وزارة الخارجية الأمريكية من عملية صنع السياسة الخارجية وعلاقة هذا الغياب بالهزل المدمر الذي يميز الآن عددا من سياسات أمريكا الخارجية. آخرها تطورات قصة انعقاد قمة لرئيسي أمريكا وكوريا الشمالية. لا يبدو معقولا أن ينشغل الرأي العام العالمي بقضية هي على هذا القدر من الأهمية بالنسبة لأمن العالم وسلامته وخاصة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة والغرب بأسره بينما لا يوجد لأمريكا سفير في كوريا الجنوبية ولا يوجد في الخارجية الأمريكية وكيل وزارة لشؤون شرق آسيا والباسيفيكي، ولا يوجد في البيت الأبيض خبراء في شئون الشرق الأقصى مشهود لهم بأي كفاءة أكاديمية أو دبلوماسية. الأمر يكاد ينطبق حرفيا على قضية الشرق الأوسط بل لعله أسوأ حالا. أن يكون جون بولتون كبيرا لمستشاري الرئيس الأمريكي وهو الرجل الذي لا يخجل من التفاخر بأنه صاحب قرار الحرب ضد العراق وشعار إعادته إلى حاله في عصور ما قبل التاريخ، فهذا دليل آخر على أن عقل مهرج في سيرك هو الذي يرسم وينفذ ويشترك بنفسه في تفجير المفاجآت وإشغال الجمهور عن ضرورات التغيير والإصلاح. الفرقعات التي يحدثها الرئيس وأعوانه قد ترضي المؤسسة العسكرية مثل السياسة المبطنة بكثير من السخرية والإهانة العنصرية للحكومات العربية وابتزاز القوى المالية العربية لشراء أسلحة وتوظيف قادة عسكريين واستئجار شركات أمن خاص، ولكن المعروف الآن أن بعض المفاجآت والمفرقعات صار يزعج قادة البنتاجون.

الحال الراهنة لعملية صنع السياسة الخارجية يقترب أكثر فأكثر من مثال باكستان. بعضنا لا شك يذكر الأزمة التي فجرها السفير الأمريكي الأسبق في باكستان السيد هولبروك بامتناعه عن تلقي أوامر ونصائح من العسكريين الأمريكيين ومندوبي أجهزة المخابرات الأمريكية والباكستانية. أسمع الآن وأقرأ عن أن نموذج باكستان، أي هيمنة الرئيس وأقرب الحواريين والعائلة في البيت الأبيض ومعهم قادة عسكريون وقيادة جهاز المخابرات الأمريكية بعد أن أخضعها ترامب لإرادته على سياسة الولايات المتحدة تجاه باكستان واستبعاد وزارة الخارجية، هذا النموذج صار القاعدة وليس الاستثناء في عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية.

***

لابد لهذا السيرك أن يتوقف. لم يعد سرا أن قادة كبار في هذا العالم يحذرون همسا في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم من خطورة استمرار الحال على الأمن العالمي. خطأ أو إجراء غير محسوب العواقب يمكن أن يفجر حربا جديدة في الشرق الأوسط أو في شرق آسيا. تسلينا بما يكفي آن أوان دفع الثمن.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version