طلال سلمان

صعود ورقة الكوكا وسقوطها

لا أخجل من الاعتراف بأنني انجذبت ذات مرحلة إلى شخصية رئيس اتحاد مزارعي نبات الكوكا في بوليفيا. رجل فقير من أصول هندية يقود فلاحين من الأصل نفسه في مواجهة الإمبراطورية الأمريكية، نصبته عاصمتها واشنطن خصما، بل نصبوه عدوا يضمر الشر للشعب الأمريكي لإصراره على الاستمرار في غرس وحماية شجرة نبات الكوكا. كانت الولايات المتحدة قد قررت أن شجرة الكوكا التي يزرعها الفلاحون في بوليفيا لأغراض عديدة ليس أقلها شأنا العلاج، يجري تصنيعها وتهريبها ليستهلكها المدمنون الأمريكيون. ثم قررت أمريكا منفردة فرض حصار دولي وتأليب المؤسسات الدولية على بوليفيا وحكومتها ممثلة في شخص رئيسها ايفو موراليس. أعود لتأكيد حالة انجذابي “التعاطفي” إن صح التعبير للرجل وما يمثله وانجذابي الأكاديمي للحالة البوليفية في منظومة إقليم أمريكا اللاتينية بشكل خاص وبين دول العالم النامي بشكل عام.


خمسون مليونا هم سكان أمريكا الجنوبية الأصليون لم يصل واحد منهم إلى منصب هام من مناصب السلطة السياسية في أي قطر من أقطار القارة قبل أن يتولاه موراليس في عام 2006. كان ايفو موراليس واحدا من نشطاء الحركات الاجتماعية والسياسية داخل مجتمعات السكان الأصليين، أي المنتسبين لسلالات قبائل الهنود الحمر، هم سكان القارة وقت وصول الرجل الأبيض غازيا ومستوطنا ثم مصاهرا. عاش موراليس فقيرا مضطهدا مثل غيره من شباب السكان الأصليين إلى أن تجاوزت الولايات المتحدة والقوى الحاكمة في بوليفيا كل الحدود الممكنة لمنع السكان من التوسع في زراعة نبات الكوكا. قامت ميلشيات بحرق أشجار الكوكا في بعض المقاطعات وتدمير معامل صنع عجينة الكوكا وإعدادها للتصدير. انتفض الفلاحون ونهض موراليس بمهمة تجميع الفلاحين في اتحاد لمزارعي الكوكا، ومن هناك وبمساعدة الاتحاد انطلق موراليس إلى ساحة السياسة منافسا الطبقة السياسية التي احتكرت السلطة وهيمنت على المؤسسات الاقتصادية على امتداد قرنين أي منذ حصول بوليفيا على الاستقلال في مطلع القرن التاسع عشر.

بدأ الرجل نشاطه السياسي ملفتا. انتبه مبكرا إلى أن السياسات اليمينية التي سهلت للشركات الكبرى عملية استنزاف ثروة بوليفيا لن تسمح بتحقيق أهدافه في الاستقلال الوطني وتنويع مصادر العمل والثروة في البلاد وتحرير شعب بوليفيا من أسره وحرمانه من التعليم ومن وظائف احتكرتها الأقلية البيضاء. انتبه إلى أن شعبيته وبناء اقتصاد جديد يعتمدان على مستقبل ورقة الكوكا فحملها معه إلى كل شارع في مدن بوليفيا وكل مدرسة وكل جامعة. وعندما زار الأمم المتحدة حملها معه ليطلع عليها قادة المجتمع الدولي ويتعرفون عليها باعتبارها أهم رموز النهضة الحديثة في بوليفيا، وليشهدوا على أن ورقة شجرة صارت هدفا لاعتداءات من إمبراطورية عظمى.


لم تتح لي الفرصة لزيارة بوليفيا سواء في عهد حكم وهيمنة الرجل الأبيض أو في عهد حكم الرجل الأصلي وصراعه مع أجهزة الإمبراطورية الأمريكية وامتداداتها في الاقتصاد والمجتمع البوليفي. فرصة كادت تحين ولم تحن. كنت في سنتياجو، عاصمة شيلي، في عهد من عهود اليمين المعتدل (إدواردو فراي من الديمقراطية المسيحية) في الحكم واليسار الديمقراطي (سلفادور أليندي) في المعارضة. قرر مسؤول في الوزارة التي أتبعها تنفيذ إرادة جهة أخرى رأت ضرورة لنقلي من سنتياجو إلى عاصمة أخرى في أمريكا الجنوبية. سمعت وقتها أن بنما سيتي عاصمة بنما ولاباز عاصمة بوليفيا كانتا مرشحتين لاستضافتي مدة الأربع سنوات المقررة لنا في الخارج. تروت الوزارة. وبعد التروي اختارت بيونس آيرس عاصمة الأرجنتين مقرا لي للسنوات الأربع. كان قريبا من موقع التروي من تنبه إلى طفلين لي في مرحلة مبكرة من التعليم وتنبه في الوقت نفسه إلى ارتفاع لاباز وخطره على صحتهما. كنا في دوائر السلك الدبلوماسي نحذر بعضنا البعض من ركوب طائرات صغيرة عندما تكلفنا وزاراتنا بتسليم حقائب دبلوماسية إلى سفارتنا في لاباز. كانوا يبالغون، كعادة معظم من قضى وقتا في هذه المهنة، فيزعمون أن الطائرة كانت عندما تقترب من مطار لاباز لا تستعد للهبوط كما تفعل عادة مختلف الطائرات وإنما كانت إذا اقتربت منه استعدت للصعود بسبب الارتفاع الشاهق للعاصمة ومطارها. هذا الزعم كان كافيا لجعلي متحفزا بصورة دائمة، وربما إلى يومنا هذا، لزيارة بوليفيا والنزول أو الصعود في مطار عاصمتها.


هناك في بوليفيا لمع، منذ الشرارة الأولى، نجم المواطن الأرجنتيني ارنستو جيفارا دي لا سيرنا، وشهرته شي جيفارا، وهناك في بوليفيا وقع في أسر مندوبي وكالة الاستخبارات الأمريكية. عذبوه وتبادلوا إطلاق الرصاص عليه مدة يومين. حطموا النجم ولم ينطفئ، أو هكذا أتصور حسب ما يصلني حتى الآن عن ترددات سيرته في عديد القارات. أحب جيفارا بوليفيا حبا عميقا. كانت لها مكانة كبيرة في نفسه. أظن أنه كان ينوى أن يحولها إلى معمل للثوار وجامعة لخبراء الثورة من كل أنحاء العالم. وجد فيها النموذج لمجتمع فقير للغاية وغاضب للغاية. هل من ثائر يطلب أكثر من هذين الشرطين لثورة يسعى لتنشب؟


ايفو موراليس مختف. فاز، حسب زعمه، في الانتخابات لولاية رابعة في رئاسة الجمهورية. الجيش رفض هذه النتيجة استنادا إلى تقرير من مقر منظمة الوحدة الأمريكية في واشنطن يتحدث عن تزييف في نتائج الانتخابات، ثم طلب من موراليس تقديم استقالته، وعلى الفور قامت عناصر مسلحة من الخطرين على الأمن بالهجوم على بيته وتحطيم محتوياته. حسب الأنباء الواردة ساعة كتابة هذه السطور ما يزال موراليس مختف. سمعت أنه عاد إلى القرية أو المقاطعة التي خرج منها حاملا ورقة الكوكا قبل ما يزيد عن عشرين عاما. عاد إلى شعبه الذي ارتفع بالفعل مستوى معيشته ومستوى تعليمه ومستوى شعوره بالكرامة في مواجهة فلول الطبقة السياسية الفاسدة. هذه الطبقة تعود الآن تحمل ورقة اتهامات لموراليس، تحوى بنودا بعناوين استبداد وتزوير انتخابات واستفتاء سمح له بتجاوز شرط الفترتين في منصب الرئاسة. نسمع عن أن الفوضى ضاربة أطنابها في كل الشوارع، وأن قوات الجيش وقوى الأمن الداخلي انسحبت مخلفة محلها عناصر تركب الدراجات الهوائية تسرق وتحرق الممتلكات وترهب الناس.

في الخارج انقسمت أمريكا الجنوبية على نفسها كعادتها، أنظمة الحكم اليمينية مبتهجة بسقوط أحد أعمدة اليسار في القارة. البرازيل الرسمية رحبت بإعلان الجيش البوليفي سقوط موراليس بينما خرج لولا دي سيلفا الرئيس السابق اليساري النزعة من سجنه معلنا دعمه لفقراء بوليفيا ولحكم موراليس. من الأرجنتين سمعنا صوت رئيسها الجديد البيروني التوجه المناهض للهيمنة الأمريكية والفائز مشاركة مع نائبته في منصب الرئاسة السيدة كريستينا الرئيس الأسبق للأرجنتين، سمعناهما يؤيدان موراليس بعد أن أسقطا بنفسيهما قبل أيام قليلة وفي انتخابات حرة نظاما يمينيا تعقدت معه الأزمة الاقتصادية ولم يحلها.


أليس صحيحا أن الغالبية العظمى من شعوب العالم تشكو من الفجوة الواسعة التي صارت تفصل بينها وبين الطبقة الحاكمة. لذلك ففي كل مكان في العالم الثورة ناشبة فعلا أو كامنة على وشك أن تنشب؟ لا مبالغة.

أليس صحيحا أيضا أنه في أي مكان في العالم الثورة فيه ناشبة أو كامنة لا توجد حلول سهلة لتبريد غضب الشعوب وتهدئة ثوراتها؟ تأمل معي صورتي لبنان والعراق. هناك كما في غيرهما الأزمات تفاقمت حتى استحكم خناقها.

أليس صحيحا كذلك، وللآسف، أنه في كل مكان في العالم كادت المجتمعات تخلو من رجال دولة على مستوى غضب الشعوب وتعقيدات الأزمة الاقتصادية واتساع الفجوة بين أغنياء تزداد ثرواتهم وفقراء تتراكم أسباب فقرهم وأغلبية شبابية الصبر على الفقر والظلم ليس أحد فضائلها.

بوليفيا مثال.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version