طلال سلمان

صبيان وبنات

هناك، في أقصى جنوب سيناء وبعيدا عن أقرب مدينة، رأيت ما لم أكن رأيت منذ مدة طويلة، رأيت السماء. رأيتها بالنهار بلون زرقة لم أعهدها إلا في أفلام والت ديزني والجمعية الجغرافية. أظن أن أحدا لن يغضب إذا وصفتها بالزرقة النظيفة. لا. لا أبالغ. فالزرقة التي نراها اليوم في السماء المطلة على حي المهندسين وهي التي لا تختلف كثيرا عن الزرقة الزاحفة على بقية أحياء القاهرة، وربما كل مصر، زرقة ملطخة بلون باهت من نوع الألوان الخبيثة التي زحفت على المدينة في السنوات الأخيرة. زحفت لتزيح الأصل وتحل مكانه بديلا مشوها. هذه الألوان المريضة أصابت الملصقات الإعلانية ولافتات وإشارات المرور وواجهات المنازل ودور الحكم. سمعت يا أستاذة من صديقتي أنك كنت دائما تحكين عن نظافة إشارات المرور الزرقاء أيام كان نادي السيارات الملكي مسؤولا عن تلك اللوحات. كانت تزين ميادين القاهرة وضواحيها وترشد بجلال واحترام وبنظافة أيضا قائدي السيارات على الطرق الزراعية والصحراوية.

***

نعم يا أستاذة. حكيت له بل ولكل أفراد مجموعتنا من البنات والصبيان وصفك للياليكم. لم أنس يوما وصفك المفصل والعميق لهضبة الأهرامات في ليالي الصيف وعلى الأخص في ليلتين يتكرران كل شهر، ليلة منهما يحتل فيها القمر كبد السماء فيحيلها نورا ساطعا. تستحي النجوم أن تنافسه بلألآتها الخجولة الطبع فتنسحب حبا أو تبقى ساكنة في مكانها ولكن بعد أن تطفئ مشاعلها. في الليلة الأخرى يغيب القمر فتمسي السماء لوحة من قماش منسوجة بخيوط من ذهب وفضة وزمرد وعقيق وياقوت وتوباز وغيرها من بدائع الخلق ودلائل الذوق الرفيع، خيوط تربط بين درر مختلفة الأحجام والألوان. لم يفتها أن تترك مساحة خالية ليسرح فيها خيالنا نحن العامة أو ليتكثف فوقها فضول الخاصة من علماء الفلك. نتحدث معك اليوم أنا وصديقي عن ليلة قضيناها في أقصى جنوب سيناء أظن أنها كانت كتلك الليلة في هضبة الأهرام التي كنت تحكين عنها مغردة أو شاعرة.

أستاذتنا الجليلة، أدعوك لتسمعي انطباع رفيق رحلتي وليلتنا الفائتة، ليلة غاب فيها القمر. سكت رفيقي لساعة أو ربما أطول قضاها مستلقيا على ظهره. لم يغف كما ظننت أول الأمر ولم يعلق في نهايته. أجلنا تبادل الرأي وأسباب الانبهار إلى يوم نجتمع فيه بعد عودتنا من سيناء. وها نحن اجتمعنا ومن حسن حظنا في حضرة أستاذتنا التي هي أيضا صديقتنا. هيا تكلم يا رفيقي.

***

أستاذة، صدقت الزميلة والصديقة الأقرب دائما إلى قلبي وأحيانا كانت الأقرب إلى عقلي. لقد رأينا معا في هذه الرحلة “سماء” لم نرى مثلها سماءا من قبل. أعذرني إن كنت حسدتك أنت وبنات وأبناء جيلك الذين كانوا حسب روايتك لصديقتي على موعد مرتين كل شهر للاستمتاع الحر بهكذا سماء فضلا عن استمتاعكم بسماء كل نهار، سماء بزرقة نقية مبهجة للروح ومهدئة للنفس ومريحة لأعصابكم. نعم هذه الزرقة اختفت من سماوات جميع مدننا. دعونا نكون صرحاء فنصرخ بالحقيقة المرة. نحن أبناء جيل يعيش في بلد اختفت سماواتها، نعيش في بلد لا يرى أهله سماءا حتى صاروا لا يدركون معاني السماء.. سيدتي، أظن أنك من جيل يعترف بوجود السماء في حالة واحدة: أن تكون زرقاء بالنهار ومضيئة بالليل بضوء القمر أو لألأة النجوم. سماواتنا المزعومة لم تعد توفر هذا الشرط. قبلتم على أنفسكم أن تسلموا لنا بلدا بدون سماوات. نحن يا أستاذة أبناء جيل جاء إلى هذه المدينة بعد أن خلع أهلها أردية الفلسفة واصطنعوا لأنفسهم إيمانا وعقائد متمسحة بسماوات غير سمائهم. نشأنا في رحاب سماء رمادية متربة لا تسمع صلواتنا وتأهواتنا وإن سمعت فهي لا تستجيب. لا تؤاخذونا إن تمردنا أو هاجرنا. نحن الشباب نريد سماوات زرقتها نظيفة كزرقة سماواتكم، نريدها سماوات تتفهم تطلعاتنا وتقدر أحلامنا. كان يكفي أن تنظروا إلى أعلى فالسماء كانت هناك زرقاء صافية وجاهزة لتستجيب.

لا تسيئا فهم ما أقول. سماواتنا إن وجدت فهي تعني لكل منا أشياء مختلفة. هناك في عراء الفراغ حيث الفضاء لم يتلوث بعد، رأيت فيه، عندما استلقينا صديقتي وأنا على الرمل في جنوب سيناء، ما لم ترينه يا صديقتي.. راقبتك من طرف عين ولكن بعقل واع وقلب متفهم. رأيت في عينيك نظرة “المستكفي”.. أعرف أنك لو كنت استدرت نحوي ونظرت مليا إلى وجهي لرأيت بالتأكيد نظرة مختلفة إن عكست أشياء فلن يكون بينها الرضا والشبع والاكتفاء.

***

أنت محق أيها الصديق رفيق سفري. غافلتك فعلا أكثر من مرة. استرقت الانتباه إلى لغة جسدك وبخاصة حركة عينيك وأصابع يديك ورجفات قدميك .عرفت منها أنك تتعامل مع سماء غير سمائي. سمائي تبدأ وتنتهي عند هذه اللوحة السماوية المتقنة الصنع والرائعة الذوق والجمال. سماؤك، وصححني إن أخطأت وأعذرني إن تجاوزت، كانت وراء سمائي أو ربما فوق سمائي. لمحتك تحدق وكأنك تدقق في تفاصيلها أو، ولا شك تعذرني، تحاول هتك أسرارها. تألمت لك ولها. تمنيت لو أن في صدرك متسعا لبعض ما في صدري من عواطف هاجت حتى فارت وراحت تملأ كل فراغ في جوارحي. شعرت بها تتسلل حتى وصلت إلى أطراف أصابعي وبعض خصلات شعري، ولا أخفيكما أني شعرت بقلبي ينتفض فمددت إليه يدا تطمئنه. نعم عشت مع سماء تلك الليلة، أقصد سمائي، لحظات من حياة ثانية. كانت انتفاضة قلبي وامتلاء جوارحي وتنميل أصابعي وتمايل شعري براهين قوية على أن تلك السماء بألوانها الرائعة وسكونها الممتع وأذيال نجومها الهاوية تدعونا لنعيش حياة لا يغيب عنها الحب. لا فراغ هناك، بل عاطفة متقدة وحب عظيم. لا يمكن، بل يستحيل، أن تكون هذه القماشة الجميلة ستارا يختفي وراءه شر أو غضب.

***

أفهم ما تقولين. سمائي نعم مختلفة، أو بكلمة أدق، رأيتها مختلفة. هل ذكورتي هي التي دفعتني للاختلاف معك؟ هل هي التي راحت تسحبني إلى مكان آخر أمارسها فيه منعزلا عن أنثويتك الحالمة دائما؟. وجدت نفسي أعيش لحظة إطلاق أول صاروخ ينطلق من هذا الكوكب يحمل أول رسالة من سكان في الأرض إلى فراغ يسكن فضاء وراء السماء. أبناء جيلكم يا أستاذتنا صنعوا هذه المعجزة وفرضوا علينا أن نختار إما أن نكتفي بهذه السماء سقفا ننمي فيه مباهجنا وسعادتنا أم نسعي لنعرف ما وراءها وفوقها. نعم، قضيت نحو الساعة أحلم. حلمت أنني تفوقت على أقران في معهد علمي، ابتكرت صاروخا، حلمت أنني بين صبيان وبنات نعيش داخل أسطوانة تلف فضاء تخفيه هذه السماء التي أراها أمامي وها نحن نهبط على الأرض لتستقبلنا المواكب يتقدمها حملة المشاعل والناس تتدافع لتقبيل وجنات الأبطال العائدين من رحلة البحث عن سماوات أعلى. أما أنت يا صديقتي فأرجوك لا تسخري مني ولا أظن أني أحرجك أمام أستاذتك، فقد رأيتك بين المستقبلين وأنت تلوحين بإكليل غار أتيت به خصيصا من أجلي. دعينا من هذا الآن.

هل خطر على بالكما، كما خطر على بال كنيث وايزبرود وهيثر يونج، أننا ربما كنا على وشك أن نفقد السماء.

***

أستاذتنا، هل أشبعنا بعض فضولك. نعم بعض دخائل الصبيان تختلف عن دخائل البنات؟ ترغبين في المزيد! لك ما تريدين.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

 

Exit mobile version