آليت على نفسي أن أحكي لأفراد عائلتي بعض ما غاب من سير وحواديت تخص أساسات العائلة. بدأت بأم أولادي وانتقلت إلى أمي، ثم ها أنا أصل إلى جد أولادي الذي أسس للفرع الشامي من فروع هذه الشجرة، شجرة عائلتهم.
***
سألوني، “كيف كان استقبال جدنا لك وأنت تطلب يد أمنا”. أجيب بالآتي: أمكم يا أولادي نقلت لأمها قلقي وتخوفي من رفض أبيها فطلبت منها إبلاغي أنها ستكون حاضرة وسوف تتدخل لو استدعى الأمر. فعلا تدخلت. اصطحبت معي زميلا كان يشاطرني مع زميل ثالث السكن. خلال أسئلة التعارف ورد على لسان جدكم سؤال عن مرتبي. أجبت بالرقم مترددا ومتلعثما. فاجأنا جميعا بسؤال وجهه إلى جدتكم عن تكلفة غداء يقيمانه للضيوف من الدبلوماسيين والشخصيات الهندية موحيا بأن مرتبي أقل من تكلفة غداء واحد. جاءت إجابتها سريعة ومفحمة “منذ متى يا عمر كنت تسأل عما ننفقه على غداء أو عشاء. ثم إنهما شباب في بداية حياتهما. هل تحب أن أذكرك بالسنوات الأولى من زواجنا؟”.
انتهت المقابلة بتحذير من أنني لا شك لم أعرف ابنته جيدا فهي صعبة المراس، قالها وفي عينيه مسحة من دمعة ترك الغرفة قبل أن تفضحه. هو صاحب هذا البيت المهدى إلى ابنته في عيد ميلادها:
حسبها أن أردها لك من قلبي.. صلاة، ومن شفاهي أغاني
***
حكيت لهم أيضا عن العشاء الذي أقامه جدهم وجدتهم في بيتهما ببيروت على شرف هيكل ودعي له صحفيون وأدباء وكنا هيكل، المحال إلى ما يشبه الاستيداع، وأنا على مشارف رحلة عربية. أذكر أن هيكل استأذن الحاضرين أن ينضموا له في طلب أن يلقي جدكم قصيدته الشهيرة التي تسببت في نفيه قبل الوحدة من سوريا إلى أمريكا اللاتينية. قال هيكل أنه حفظها وهو شاب ولكنه يريد أن يسمعها بصوت من صاغها. هذه القصيدة ألقاها جدكم لأول مرة في أعقاب هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين الأولى. انتشرت بين السوريين وعمت الفوضى. صدر قرار نفي جدكم سفيرا في البرازيل وسقطت الحكومة. كان مطلعها.
أمتي هل لك بين الأمم .. منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق .. خجلا من أمسك المنصرم
ومن القصيدة أيضا،
ألإسرائيل تعلو راية .. في حمى المهد وظل الحرم
***
جدكم يا أولاد كتب في الغزل أكثر مما كتب في شيء آخر. مثلا كتب يقول عن امرأة استمعت إلى غزله الرقيق ومديحه لها:
أطرقت والشوق في مقلتها .. كاد أن يفضح أحلام صباها
عن امرأة أخرى قال في خاتمة قصيدته عنها:
كأنها في حبها .. أطهر من أن تخجلا
كتب عن الحب:
يا رب عاطفة وراء جوانح .. خرساء أبلغ من أرق خطاب
قال أيضا:
ليلى! يكاد هواك يجرح زهوتي .. فتبوح بالألم الدفين الأدمع
وقال:
قفي! لا تخجلي مني .. فما أشقاك أشقاني
لنطو الأمس، ولنسدل .. عليه ذيل نسيان
فإن أبصرتني، ابتسمي .. وحييني بتحنان
وسيري سير حالمة .. وقولي .. كان يهواني
وعن حبه لجدتكم:
رفيقة العمر جفاني الكرى .. فوسديني الساعد اللينا
أريد أن أغفو وفي مسمعي .. ما يستعير الحب من حبنا
***
سألت أحفاده عن ذكرياتهم معه. قالت الأصغر “أذكر مفاجآت قدومه إلى بيتنا في المهندسين بالقاهرة أو بيتنا في قرطاج بتونس ومفاجآت اختفائه. يأتي حاملا حقيبة يد سامسونايت تتسع لغيارين وقميصين ويغادر بعد يوم أو يومين”. قالت الوسطى: أذكره دائما مرتديا بدلته كاملة مع ربطة العنق. لم أره مرة واحدة بملابس النوم حتى عندما أقمت في بيته ببيروت لمدة عام. أذكره في أسوأ حالاته عندما توفي حفيده الطفل من ابنه شافع في حادث أليم بالقرب من جزيرة يونانية. كادت تنسى أو نسيت بالفعل أنها كانت وهي في السابعة من عمرها تخرج معه في رحلته اليومية إلى مقهى على كورنيش بيروت. عادا كعادتهما على موعد الغداء وليحكي لنا عما فعلته معه. قال سهوت كعادتي فدخلت التاكسي قبلها. غضبت وخاصمتني طوال طريق العودة إلى البيت. ما أن دخلت البيت إلا وراحت تشكو بلغة أسبانية تعلمتها في الأرجنتين تصرفات “سفير سابق لا يحترم قواعد البرتوكول، يدخل السيارة قبل أن أدخل”.
***
أما الحفيد الأكبر فيحكي أنه كان في العشرين من عمره عندما ذهب مع جده إلى حفل عشاء ببيت الصباح المنتج السينمائي اللبناني المعروف والمقيم في القاهرة مثل آلاف اللبنانيين أثناء الحرب الأهلية. كان مدعوا عدد كبير من الفنانات المخضرمات ولكن أيضا من صغار السن. قال “أذكر أن جدي كعادته كان محاطا بنساء من كل الأعمار وهو يلقي عليهن أشعاره في الغزل. طلبت منه هامسا تعريفي بواحدة كانت في مثل عمرى، أي في العشرين أو أقل. لم يرد. كررت الطلب ولم يرد. اقتربت من أذنه وهددته بأن أناديه “يا جدي” بأعلى صوت وعلى الملأ. استجاب على الفور وعرفني على الفتاة الجميلة الحالمة بدور في فيلم ينتجه الصباح، وبالفعل أصبحت وإلى عهد قريب نجمة مشهورة.
***
أحسن الحفيد التقدير فجده كان بالفعل شديد الحساسية لمسألة العمر. هو صاحب قصيدة مطلعها
وأتيت مرآتي وعطري في يدي .. فبصرت ما لا كنت فيها أبصر
فخفضت طرفي ذاهلا متوجعا .. ونفرت منها غاضبا أستنكر
خانت عهود مودتي فتغيرت .. ما كنت أحسب أنها تتغير
***
يا أولادي، أختم هذه الحصة ببيتين نظمهما جدكم عن مشكلة صارت تخصني وأنا في هذا العمر، هي مشكلة إدمان الذكريات، يقول:
راويات الزمان، ما لي أناجيك .. ومالي أغص بالأشجان
إغسلي الذكريات عني فمالي .. في احتمال العبء الثقيل يدان
***
كثيرا ما ردد أمامنا
عالم الوهم نحن صغنا رؤاه .. وأردناه أن يكون فكانا
لست تسطيع أن تكون إلها .. فإن اسطعت فلتكن إنسانا
***
نعم. صاهرت شاعرا .. صاهرت عمر أبو ريشة