طلال سلمان

شقاوة الكهول

اهتزت أركان السوشيال ميديا في اليابان. اهتزت بعنف ولمدة يومين. بدأت تحت عنوان «رجل مسن يعطل المترو دقيقتين» وانتهت تحت عنوان «هذه المرة تجاوز المسنون كل حدود التقاليد والأعراف» وعنوان «يجب وضع حد لسلوك كبار السن من المواطنين». تبدأ الزوبعة برجل متقدم في العمر يصعد إلى القطار تساعده امرأة من الركاب ويختار الوقوف قريبا من الباب. العربة بالفعل مزدحمة وكل المقاعد مشغولة بركاب في سن الشباب. راكبنا يعرف أن أحدا من هؤلاء لن يدعوه ليجلس محله كعادة الناس في زمانه، بل إن أحدا لم يتحرك ليفسح له مكانا في ردهة العربة وبعيدا عن الباب. تأفف مرة أو مرتين ولم يأبه أحد.


انطلق الجرس محذرا الركاب فالأبواب على وشك الإغلاق. تحركت الأبواب وانسحب الواقفون قريبا منها خطوة إلى داخل العربة إلا راكب واحد. أصر هذا الراكب على أن يمد قدمه لتصير حائلا يمنع التصاق الضلفتين فلا ينغلق الباب ولا يتحرك القطار. تسع مرات امتدت القدم وصراخ الركاب لا يهدأ وبرود الراكب المسن لا يتأثر. الآن ينتقل الحدث من مجرد باب قطار لم يغلق إلى قضية وطنية كبرى فالقطار تأخر دقيقتين عن موعد وصوله إلى محطته التالية. هاجت اليابان وفي قلبها شباب «لم يعد يحتمل شقاوة الكهول وتصرفاتهم الرعناء».


لم أصدق عينَيَّ وأنا في الطائرة أقرأ تفاصيل الحدث الجلل كما روته النسخة الإنجليزية من صحيفة «الشعب اليومية» التي تصدر في بكين وتطبع في هونج كونج. ألقيت بالصحيفة جانبا وغابت بي الذاكرة لأجد نفسي مع أربع تلميذات بملابس المدرسة في مصعد بأحد أهم فنادق مدينة طوكيو ذات يوم قبل سبعة وأربعين عاما. سألتني أكبرهن إن كنت أوافق على إجراء مقابلة مطولة معهن تنفيذا لمشروع كلفن به من معلمة التربية الوطنية. احمرت الخدود خجلا واعتذارا عندما نبهتهن إلى أن التكليف الصادر لهن من المعلمة يفرض اختيار رجل أجنبي متقدم في العمر ليحكي عن تجربة المسنين في بلاده والمزايا التي يتمتعون بها وأشكال الاحترام والتقديس التي يتعامل بها معهم المواطنون في سن الشباب. «وأنا لست هذا الرجل كما تلاحظون». انبرت أصغرهن لتقول «أنت أجنبي وبالنسبة لنا أنت متقدم جدا في العمر. وهذا يكفينا». أعترف الآن أنني في ساعتين عرفت عن الحياة في اليابان وموقع المسنين في المجتمع من تلميذات تحت الخامسة عشرة ما لم أتعلمه من قبل في الكتب والاختلاط بأجانب عاشوا في اليابان وزملاء من الدبلوماسيين اليابانيين.


عن المسنين في حياتي أذكر جدتي لأمي. عشت طفلا مع آخرين نتقافز فوق سريرها ونتنافس على احتلال فخذيها الوثيرين. اسمها جمال وكانت في كهولتها جميلة وسمينة للغاية. لا أذكر تماما في أي سن كنت وكانت حين بدأت تدعو لي «يا رب متعه بالزوجة المطيعة والذرية الصالحة». زيارتنا الأسبوعية لبيتها كانت أحلى المنى. هناك في هذا البيت المطل على أكثر من عشرين مئذنة والمتاخم لعدد لا يحصى من الكتاتيب نشأت واكتمل وعيي. هناك كانت هذه الجدة من فراشها التي لم تغادره لسنوات لا أذكر عددها تقود تربية وتنشئة أكثر من عشرين حفيد وحفيدة. رحلت عن عالمنا فانفرطنا وتوزعنا على أحياء القاهرة. أزعم أننا لم نجتمع يوما واحدا بعد رحيلها كما كنا نجتمع، نحوم حولها ونسألها الحكمة والنصيحة.


فهمت بعد ذلك الذي قرأته في صحيفة الشعب الصينية أن الكارثة أعمق بكثير وأن حادثة الكهل والقطار ليست سوى قمة جبل جليد. تألمت. تألمت أكثر عندما تابعت حجم التفسخ الأخلاقي والسلوكي في كثير من المجتمعات نتيجة التطور في التكنولوجيا وتقدم علوم الصحة. اليوم في اليابان يعتبر الشباب وجود رجل مسن في أي مكان وأي مجتمع أمرا مزعجا. الصحف تنشر رسائل عديدة من شبان يشكون من سوء معاملة كبار المسؤولين، الذين هم في الوقت نفسه، كبار في العمر. هؤلاء الكبار يكرهون الجيل الذي لم يعش أيام الزمن الجميل التي عاشوها هم. يكتب الشباب عن كبار العمر الذين يجبرونهم على الاستماع إلى نصائحهم وإرشاداتهم فيما يخص أوجه الحياة كافة. الأمهات من الشابات سئمن تدخل الجدات في عملية رعاية الأطفال. يعيب الشباب على كبار السن وينتقدون وقوفهم طويلا أمام ماكينات سحب النقود. يحتجون على احتلال كبار السن المناصب لمدد طويلة فهم بذلك يحرمون الشباب من فرص الترقى. أصحاب المتاجر يطلبون حماية الشرطة لتجارتهم من ظاهرة زيادة أعمال السرقة التي يرتكبها المسنون. المسنون متهمون بأنهم يلقون بأكياس مأكولاتهم في الشارع نكاية في الشباب الذين يوكل إليهم مسؤولية تنظيف الأماكن العامة.


يمكن أن أتفهم أن تحدث هذه الأمور في مجتمع غربي ولكن أن تحدث في مجتمع جبل تاريخيا على تقديس كبار السن فهذا ما بقي عصيا على الفهم والقبول. لا أحد في اليابان يتحمل مسؤولية هذا التدهور في أخلاق الشباب سوى كبار السن أنفسهم. هؤلاء قرروا حين كانوا أقل تقدما في العمر التوقف عن الإنجاب. اليوم صار المسنون فوق السبعين يشكلون خمس السكان ومن هم فوق الستين يشكلون ربع السكان. هذه النسبة المرتفعة عاطلة عن العمل، لا تنتج، لا تدفع ضرائب، تعالج على حساب الدولة، هم في نظر بعض فئات المجتمع عقبة أمام التطور والتقدم. فوق هذا وذاك كبار السن متهمون بأنهم في البيت مصدر إزعاج وفي الشارع مصدر إزعاج.


يا شباب، ماذا أنتم فاعلين بكبار السن في بيوتكم وفي مجتمعاتكم. حتما سوف يزداد عددهم وحتما سوف يعيشون أطول وحتما سوف ترتفع فاتورة رعايتهم وحتما لن يتوقفوا عن التدخل في شؤونكم.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version