طلال سلمان

شجون امرأة

سمعتك تخاطبين صديقتك. سمعتك تعرضين عليها المشاركة في تحقيق أمنية أعرف أنها تمكنت منك حتى سيطرت وهيمنت. تقولين لها، وأنا أعلم كم هي قريبة منك ومن أمنياتك وأحلامك، «تعالي نجرب معا تعميق ما حققنا خلال مسيرتنا لتحرير المرأة. حققنا الكثير، ولدينا أكثر من دليل. ولكن هناك الدليل الذي يقلقني في النهار ويقض مضجعي في الليل. تذكرين ولا شك مخاوفنا من أن خصوم تحرير المرأة لن يهدأ لهم بال إلا وقد أفلحوا في وقف المسيرة أو تعطيلها بعقبات من كل نوع وعقيدة وأسلوب. أظن أننا نجحنا إلى الحد الذي يمكن أن يكون قد جرح كرامتهم وهز ثقتهم بأنفسهم. قد أكون مخطئة أو مبالغة ولكني أتصور أن الخطر الذي يهددنا آت من مصدرين هما بالفعل أهم نقاط ضعفنا.

***

تذكرين يا صديقتي كم من المرات ناقشنا قضية التاريخ وكيف ظلمنا وأين انتهينا بسبب هذا الظلم قبل أن نثور ونبدأ مسيرة التحرير أو التمكين. ما زلت عند موقفي من أن بعض إنجازاتنا نحو تحرير المرأة سوف تبقى عرضة للانتكاس ما لم نزودها بوقائع تاريخية عن دور للمرأة في صنع التاريخ ونثبت أن الرجل لم يصنع التاريخ وحده كما يزعم أغلب المؤرخين.. غير معقول أن تعيش المرأة عشرات الألوف من السنين طرفا غائبا أو منسيا أو في أحسن الأحوال طرفا ثانويا. أتمنى أن أرى قراءات جديدة في التاريخ تركز على دور للمرأة في صنع هذا التاريخ. كل الأنبياء ذكور. هذه إرادة لا نتدخل في تفسيرها أو تبريرها. ولكني لا أفهم، ولن أفهم، أن يكون التاريخ كله أو أكثره دينيا كان أم غير ديني من صنع رجال. وإن جاء ذكر النساء في السرديات التاريخية فمحظيات في قصور الخلفاء والسلاطين والقياصرة والأباطرة أو في رسومات وتماثيل كبار الفنانين، وهؤلاء أنفسهم من الذكور.

***

كثيرا ما تساءلت هل يتحمل الوزر المؤرخون باعتبارهم رجالا يمكن أن يتحيزوا للذكور بطبعهم وأعرافهم وعقائدهم الدينية فيرفضون البحث عن أدوار للنساء في صنع التاريخ. أم أن النساء كن بالفعل خارج التاريخ فلم تصل سيرهن إلى المؤرخين. كثيرا ما أعربت لأساتذة تاريخ معروفين عن دهشتي لخلو الساحة الأكاديمية المصرية تقريبا من مؤرخات ومسجلات تاريخ ولم أتلق تفسيرا مرضيا. الحل في رأيي لن يخرج عن إنشاء مدرسة جديدة لإعادة قراءة التاريخ بعيون وعقول نسائية أو على الأقل ولفترة محدودة بعيون وعقول مؤرخين من الذكور قرروا تركيز جهودهم في البحث عن أدوار للنساء أغفلها مدونو الأحداث ورواتها في قصور الحكم وفي الكنائس والمعابد على اختلاف أنواعها. سيكون مثيرا وبحق قراءة إعادة لتسجيل تاريخ مراحل من حياة شعوب الآزتك والإنكا والمصريين والبابليين والفرس والهنود والصينيين القدامى تبرز فيها أدوار النساء في صنع هذه الحضارات.

***

صديقتي، لقد حققنا الكثير، أنت وأنا ومعنا عديد النساء والرجال في شتى أنحاء العالم. لكن الخطر جاثم يهدد كل أو بعض ما أنجزنا وننعم في ظله باستقلالية لم تدركها جداتنا وأمهاتهن. يكمن الخطر في حقيقة أن أحفادنا يدرسون تاريخا ناقصا أو مبتورا. أقول، بل وأدعو، بضرورة استكمال هذا التاريخ أو إصلاحه إن لزم الأمر. بناتنا لا يعرفن تاريخا لمسيرة البشرية غير التاريخ الذي كتبه ذكور عن سير وأعمال ذكور. أولادنا الصبيان سيتدعم لديهم شعور التعالي الذكوري، هذا الشعور الخبيث الذي ننشئ عليه أطفالنا ونغرس معه عقدا وعيوبا نفسية وأخلاقية تعشش في عقول أطفالنا وتكبر معهم. تعالي معي نحمي إنجازاتنا وننمي إمكاناتنا، تعالي نصوغ حلا لمشكلتنا مع التاريخ.

***

نعم، التاريخ خطر يهددنا ولكنه ليس الخطر الوحيد الجاثم فوق صدر حركتنا الوليدة. يهددنا أيضا الخطر المتنامي نتيجة شعور الإنسان المعاصر بالوحدة، وهو المتزايد بخاصة بين النساء كميا ونوعيا. قبل أي شيء دعينا نعترف بأن استقلاليتنا، أهم إنجازات حركة تحررنا، مسؤولة بدرجة غير بسيطة عن انتشار الشعور بالوحدة بين النساء المعاصرات. لا توجد بيننا من تنكر أن تحقيق الاستقلال كان وراء حصولنا على مستوى أرفع من التعليم وبالتالي على دخول أعلى. هذه الزيادة في دخول النساء شجعت عددا أكبر على الهجرة من المدن إلى الضواحي. بل أنها هي نفسها التي دفعت نساء عديدات لدفع أقساط من دخولهن الجديدة لشراء مزيد من الاستقلالية. لا تنسي يا صديقتي أن حلم أي فتاة أو امراة حققت قدرا من فائض في الدخل هو الهجرة من عائلة كثيفة الأعضاء إلى عش منفصل أو غرفة في شقة متعددة الغرف في بيت متعدد الطوابق أو وهو الحادث بكثرة هذه الأيام الهجرة إلى غرفة عصرية التأثيث في بيت صغير في حي من أحياء الضواحي وحبذا لو كانت ضاحية منعزلة. بمعنى أخر كان الطريق ممهدا منذ بدأ التحرير والتمكين لتلحق بهما الاستقلالية ثم الدخل الأعلى فالهجرة إلى السكن المنفرد، ومنه آجلا أم عاجلا إلى الشعور بالوحدة.

***

ثم هناك الزواج المتأخر كسبب دافع للشعور بالوحدة، وقد يكون هو نفسه نتيجة لحصول المرأة على قدر عال من الاستقلالية سمح لها بأن تحصل على تعليم أعلى وأحيانا ما يكون في مدينة أخرى ووظائف تدر دخلا أكبر وغالبا ما تتوافر هذه الوظائف في دولة أخرى، كلها عناصر تغري المرأة على تأخير رهن نفسها لشخص يعيدها إلى حياة القيود والتقاليد والممنوعات والمحرمات، يعيدها أيضا إلى التزامات تجاه عائلة وبيت أكبر. المشكلة الأعظم التي واجهتها صديقات تعرفين أكثرهن كانت حين اكتشفن أنهن تعودن على حياة النساء المستقلات وغير المرتبطات بزوج وأطفال، عانين وقتها من الشعور بالوحدة هن الآن وبعد أن تزوجن وأنجبن ورحن ينعمن بمتع الحياة المكتظة لا تفوتهن الشكوى المنتظمة من نمط حياة يجعل الشوق لأيام الوحدة أشد إلحاحا.

تذكرين ولا شك ثلاثة على الأقل هن الأقرب بين صديقاتنا اللائي قررن ونفذن الطلاق. تعترف الأصغر سنا أنها تعلمت من تجربتي الزواج والطلاق أشياء مهمة. تقول أنها تشعر بحرية لم تتح لها من قبل، وتضيف أنها لم تكن تعرف أن المرأة المطلقة أكثر قبولا في المجتمع من نساء لم يتزوجن. كانت تسمع من أهلها العكس. وهى تشرح لماذا شعرت بارتياح في علاقاتها الجديدة ربما لأنها تقدم على هذه العلاقات بمنطق من أدت واجبها للمجتمع كاملا، أدته حين تزوجت وأنجبت فلا أحد يحق له اليوم أو غدا مطالبتها بأن تتزوج.

***

هذه الصغيرة قالت شيئا آخر أحب أن تسمعيه. قالت أتعرفين يا صديقتي ما الذي افتقد حقيقة وصراحة. أفتقد بين كل من عرفت وأحببت وعاشرت مفكرتي التي لم تجعلني أشعر يوما بالوحدة أو أشتاق يوما لغيرها.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version