طلال سلمان

سيد مكاوي: الفرح غناء وموسيقى..

عشر سنوات مرت على غياب الرجل الذي غنانا حتى الرقص وابهجنا طرباً حتى النشوة، وجعلنا نجاور النجوم والقمر في الآهات التي كنا نستقبل بها الحانه التي تضج بالفرح: سيد مكاوي.
لكأن العبقرية تزداد تألقاً مع انطفاء النظر فتعوض البصيرة والاحساس المرهف وتذوق الجمال في الصوت والموسيقى والعجز عن الرؤية المباشرة وان ادرك صاحبنا ما يقصد بالكلام، ولو موارباً مراعاة لوضعه الخاص، فيرد بان يحول العلة إلى موضع تندر..
ولقد تسنى لي أن اعرف الملحن المبدع والمغني بإحساسه المرهف بعض ما لحنه لغيره من “الكبار” واساساً السيدة ام كلثوم ووردة وغيرهما وكثير غيرهما..
دخلت بيت سيد مكاوي، لأول مرة، بينما القاهرة كلها، شوارعها بمقاهيها والمطاعم، نيلها والمراكب السارية في سمرته، الارصفة بحشودها المتلاطمة، البيوت والاوتوبيسات وعربات الكارو بكل ذلك البحر المتلاطم من البشر فيها وعليها، يسبحون في نشوة “الأطلال”.
كنت بصحبة مبدع هو بهجت عثمان، والتقينا لديه المبدع الاكبر صلاح جاهين وكنت، قبل ايام قليلة، قد استمتعت غاية الاستمتاع بأوبريت “الليلة الكبيرة” في مسرح العرائس، وهي المغناة التي كتب كلماتها صلاح جاهين ولحنها وغنى معظم مقاطعها سيد مكاوي.
بادر بهجت الى الهجوم فوراً: سمعت يابو السيد أغنية أم كلثوم الجديدة، الأطلال…
ورد الشيخ: سمعتها يا عم بهجت،
ـ وإيه رأيك فيها؟!
قال سيد مكاوي والسخرية ترتاح على وجهه وتظلل نظارتيه السوداوين:
ـ يعني.. المهم يا بهاجيجو ان أم كلثوم رجعت تغني!
كان الرأي قاسياً جداً، خصوصاً بعدما شرح مراميه سيد مكاوي نفسه:
ـ ليه هي “انت عمري” غنوة يابو صلاح؟!
قهقه صلاح جاهين، ودارت حفلة تشهير بالأغنية التي وصفتها الصحافة والاوساط الفنية، آنذاك، بأنها جاءت نتيجة لقاء قمم الإبداع بطلب لا يمكن رده لقمّة القيادة السياسية: فجمال عبد الناصر كان قد تدخل شخصياً لإقناع أم كلثوم بأن تغني من ألحان محمد عبد الوهاب.
ويمكن تلخيص رأي سيد مكاوي بأن عبد الوهاب قد أنزل أم كلثوم من عرش الغناء الشاهق لترقص في الشوارع، وانه قد حشر في اللحن كل نغمات التطريب في الاغنية فكسر هالة “الست” وجعلها مشاعاً للسكارى والمهووسين الذين “يسمعون بوسطهم”!
كان سيد مكاوي من مدرسة اخرى، المدرسة التي نشأ وترعرع فيها عبد الوهاب ثم “خانها” وانحرف خارجاً منها وخارجاً عليها ليرمي نفسه في بحر غير بحره هو الموسيقى الاجنبية التي اخذ “يلطش” منها مشوهاً التراث الاصيل للموسيقى الشرقية التي لا تقل غنى بنغماتها عن “الافرنجية”، بل هي بحساسياتها أعظم غنى إضافة الى كونها تنبع من وجدان ناسها وتذهب رأساً الى وجدانهم.
“عبد الوهاب ذهب بعيداً عن أرضه فصار هجينا! لقد خان جيل الاساتذة العظام محمد عثمان، وسيد درويش وعبده الحامولي وزكريا احمد وغيرهم من الاصلاء الذين حاولوا ويحاولون تطوير موسيقانا من دون الاغتراب عن أمتهم!”

*****

ظل سيد مكاوي، حتى الرمق الاخير، أمينا للمدرسة التي نشأ فيها وتربى على أصولها.
حتى النغم الأخير ظل مصرياً، عربياً، شرقياً، يلحن ويغني بإحساسه أكثر مما بعلمه، وبوجدانه أكثر مما بثقافته الموسيقية.
إن التطور هو سنّة الطبيعة، ولكننا في كثير من الحالات نتهجن، ولا نتطور.
إن الانفتاح على الثقافة العالمية، بمختلف مجالات إبداعها، ودرسها واستيعابها شروط بديهية لإبداع أرقى، ولكننا كثيراً ما نغترب ونبدل أسماءنا والهوية ونتصرف بالمقتبس وكأنه من ابتكارنا ومن انتاج عقولنا، فنقطع بيننا وبين ابنائنا ونشعرهم كأنما ولدتهم المصادفات القدرية، وكأنهم يجيئون من العدم، فلم يكن قبلهم أحد وليس خلفهم إلا التخلف والجهل والانحطاط والغربة عن العصر.
لقد أعطى سيد مكاوي مئات الألحان، وسيظل العرب معه ومع المطربين الذين أخذتهم ألحانه الى الشهرة والمجد، لسنين طويلة.
من الوجدان جاء وفي الوجدان سيبقى هذا اللحن الشرقي الشجي الذي سافر بالناس الى الفرح، بينما صاحبه لا يستطيع ان يرى وجوه محبيه… بمن في ذلك اولئك الذين ساهموا في صنع بعض مجده وبينهم ذلك المبدع العظيم الذي يحفظه وجداننا أيضا: صلاح جاهين!
حزنه في قلبه وللناس الفرح: ذلك هو الأصيل الذي غاب، سيد مكاوي!

Exit mobile version