طلال سلمان

سوريا والسطر الأخير

السطر الأخير من الحروب السورية لم يُكتب بعد. التنبؤ بالمستقبل محفوف بالمجازفة.. ليس في الميسور تحديد معالم الحجارة المنخورة والناس المفقودين والمدن التي صارت ركاماً. الفرح الناقص بقرب انتهاء القتال، يكشف عن حجم كارثي للأحزان المكتومة والمآسي اليابسة.

المقيمون في النزوح سيعودون ليكتشفوا أن الحروب، كل الحروب، سرقت سوريا. أخذت منها الروح. خطفت منها المرح، غُلبت فيها الرقة. ولا نسمة احتفظت ببكارة حبها في وسط العواصف. ولا حجر ظل أخرس لم يتناثر قهراً وقتلاً… من يستطيع تحمل استعادة الماضي؟ الماضي مضى مسحوقاً. المستقبل، اسئلة البؤس ومخيلة الدم، وذاكرة القتل. وما بينهما، حاضر يترنح فيه المصير. لعل الأسوأ، أن يلتئم الجرح على زغل، أن يستعاد السلام بأعقاب البنادق.

ستخرس اقلام كثيرة. حسابات كثيرة، او كلها، ستكون رصيد الخسائر كلها. لقد انفقت الحروب اجيالاً من ماضٍ عريق، ورسمت منعرجات النأي والبعد والجفاء، فماذا عن الاحقاد، واسبابها بعدد الإرتكابات الفظيعة والمشينة، وهذه لا تحصى؟

الخاسرون خاسرون، والفائزون خاسرون. لعل الشعور بالخسارة يوحد بين “شعوب” لاذت بالعقائد والبنادق والثأر والدين، وبلاد، كانت على مدى عصور، بوابات الآمال الصعبة والقضايا المتأصلة بتاريخها.

متى تبدأ البدايات الجديدة؟ أي صفحة سيكتبها التاريخ عن المجزرة؟ ما ألوان الموت ولماذا قلّت الحياة؟ أما كان ممكنا اختصار القتل؟ لماذا لم تتعب الجبهات؟ من يحمل وزر المقتلة الكبرى؟ غداً؟ إلى أي جحيم سينتمون؟ هل يرسمون لأنفسهم صورة “الافغان العرب”. وماذا عن الاشقاء العرب؟ لقد أنفقوا من الدم السوري بدولارات بلا حساب.

ماذا ستفعل القبائل والعشائر بعدما استعادت حيويتها من أرومة يابسة تسمى التقاليد؟ ثم، ماذا عن السلطة، امسِ واليوم وغداً؟ هل ستوقع على ما اعتادت عليه؟ هل ستصغي؟ هل ستعتبر؟ هل ستراجع؟ هل تودع ماضيها وحاضرها؟ ليس صحيحاً أن السيف اصدق انباء من الكتب، الا عندما تكون المواجهة مع العدو الاصلي، وهو معروف الاقامة في فلسطين المكتظة بروحها وأصالة قضيتها.

سوريا غداً، هل ستداوي جراحها الطاعنة بالحرية، ام بالعفو؟ الحرية تشفي الجراح والمسامحة تتركها للاستهلاك السياسي، وتجارة النفوذ. هل ستطرد سوريا الاشباح ام تتركها ذخيرة لممارسة التخويف؟ واسئلة أخرى من طبيعة السياسة بعد انسحاب البنادق.

الحديث رائج عن اعادة الاعمار. ديون مليارية ستسجل في الحسابات السورية. والظن الغالب أن الاعمار، جائزة الفائزين وحلفائهم. انما، من سيعيد اعمار النفوس؟ اية ثقافة؟ اية سلطة؟ بأي شكل؟ تلك اسئلة متشائمة جداً. دروس الجزائر وليبيا ومصر والعراق ولبنان وما تبقى من دول، تفيد بأن التعايش على مضض، هو الاسلوب المتبع. بعد حروب لبنان، انتصر التعايش الهش بإفرازاته النتنة وصفقاته المخزية وارصدته المجزية. العراق، يا حرام. تعايش النهب والسرقة والقتل، إلى جانب التمذهب. مصر، التعايش مع القمع. قمع غير مسبوق مصرياً.

الخلاص، بعد الحروب، بعيد جداً. الحروب لم تخِّرج مواطنين احراراً وديموقراطيين وعروبيين. هذا فوق طاقة المتحاربين. مستوى المتحاربين ومن يأتي منهم وبعدهم، متدنٍ جداً، عما كانت عليه احوالهم، قبل فصول “الربيع العربي” الدموي.

لن يكتب السطر الأول من مسيرة النهوض. الوطن بعيد. الحرية نائية. المواطنة مصادرة حينياً وسياسياً… والبدائل، اسوأ مما كان.

هذه الحروب، إذا انتهت فصولها الدامية، سترثها قوى تستقوي، اما بعسكرها، وأما بطوائفها، وإما بارتهانها للدول النافذة والأموال المسفوكة.

طبعاً، سيكتب السطر الاخير من الحروب. المشكلة في كتابة السطر الأول للسلام. وسيطول الانتظار. ثم: أي سلام؟

 

Exit mobile version