أتفق مع السيد شواب رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي ومؤسسه على أننا، أي البشرية، على أبواب عالم جديد، وأظن أنني لن أختلف معه كثيرا حول اختياره عبارة “العولمة 4” عنوانا لهذا العالم الجديد، ولعله ينتظر الآن من ممثلي القوى والمؤسسات الرأسمالية ومفكري النظام الرأسمالي المشاركين في مؤتمر المنتدى للعام الحالي أن يضعوا خريطة طريق توضح معالم هذا العالم الجديد وتحدد الصعوبات التي قد تواجه هذا النظام في السنوات القادمة وتحذر من تكرار الأخطاء الي تسببت في انكسار “العولمة 3” والسلبيات التي نجمت عن ممارساتها. هذه الأخطاء والسلبيات حسب رأيه ورأيي يتحمل كثير منها مسؤولية عديد الأزمات والارتباكات التي شهدها العالم في العقدين الاخيرين، والتي، وأقصد الأخطاء والسلبيات والأزمات والارتباكات، يمكن أن تبقى معنا سنوات أخرى قادمة. كثيرة هي، ويزيدها عددا وأهمية نواحي قصور أخرى لم تكن “العولمة في آخر مرحلة لها” وحدها مسؤولة عنها. جميعها على كل حال مسؤول وإن بدرجات متفاوتة عن تفاصيل الصورة الكاملة لعالم اليوم وسنختلف حتما عند اختيار أهمها وأسبقها. من ناحيتنا ستتأثر اختياراتنا بأوضاعنا في الداخل ورؤيتنا الأيديولوجية، ولن أعتذر عن المنحازين أيديولوجيا وعلى كل حال لن أفلح إن حاولت فكل صاحب رأي وجهد منحاز أيديولوجيا وأغلبهم معتزون بانحيازاتهم. يعرفون أنهم بدون هذا الإعزاز يفقدون الثقة بأنفسهم ويفقد الناس الثقة بهم.
للخريطة، كما ذكرت، تفاصيل غزيرة، عرضتها على زملاء بانحيازات أيديولوجية متباينة وخرجنا بقائمة ترصد التفاصيل الأهم لخريطة يبدو أنها سوف يكون لها التأثير العميق على مسيرة البشر وحكوماتهم خلال السنوات القادمة.
جاء الرئيس دونالد ترامب على رأس القائمة. رجل خرج مباشرة من رحم العولمة في مرحلتها الثالثة حسب تسمية شواب لها. استفاد منها ماديا إلى أقصى الحدود. بفضلها أقام إمبراطورية فردية ثم عائلية، جمع ثروات طائلة وعلاقات وعقد صفقات مستخدما فرصا وفرتها مرحلة الثورة في الاتصالات وانتقال رؤوس الأموال التي تراكمت لدى المصارف نتيجة التوسع في سياسات السوق وحرية التجارة. بهذا المعنى كان ترامب نموذجا للعولمة استفاد منها، هو وأمريكا، ثم انقلبا عليها عندما شعر، وشعرت أمريكا، بأن العولمة خلقت منافسين أقوياء وجيلا جديدا من عمالقة الاستثمار ودولا شقت طريقها بسرعة غير متوقعة نحو مواقع القمة. العولمة الآن، وسوف تظل، كلمة مكروهة في قاموس اللغة الفريدة حقا التي يستخدمها الرئيس الأمريكي. الكره لها صار سمة من أهم سمات الدبلوماسية الأمريكية الراهنة التي سرعان ما ترجمته حربا كلامية وإجرائية ضد رموز العولمة والمؤسسات المستفيدة منها مثل منظمة التجارة العالمية واتفاقات المناطق التجارية الحرة التي عقدها رؤساء أمريكا السابقين أو شجعوا عليها. الرمز الأهم ولعله الأبقى هو الصين، أهم ثمرات العولمة، وهذه شن الرئيس حربا تجارية ضدها وضد الاتحاد الأوروبي أحد أهم النماذج. وحقق نجاحا في الحالتين.
واضح لي على الأقل أن ترامب جاء إلى منصبه وقد قرر أن يسلك النهج نفسه الذي سار فيه حكام أمريكا في أعقاب أزمة الكساد في الثلاثينيات من القرن الماضي. وقتها لجأوا إلى إعلان التوسع في سياسات الحماية الجمركية ووضع الصعوبات أمام القوى المنافسة واختاروا الانعزال عن مجتمع الدول الديمقراطية والامتناع عن دعم المؤسسات الدولية وتقليص كل أنشطة وفرص التعاون الدولي. هناك من حاول الربط بين هذا النهج الذي سلكته الطبقة السياسية الأمريكية في الثلث الأول من القرن العشرين ودخول أمريكا الحرب العالمية لتمنع استمرار صعود قوى دولية جديدة وبين الإجراءات العدائية المتنوعة التي تستخدمها إدارة الرئيس ترامب في التعامل مع قوى دولية صاعدة ومؤسسات وأحلاف هي نفسها عضو فيها وقائد.
من سلبيات العولمة في مرحلتها الفائتة، أي رقم 3 حسب الترتيب الذي وضعه السيد شواب لمراحل العولمة، أنها تسببت في توسيع الفجوة بين الغنى والفقر إلى درجة لم يعرف مثيلا لها الصراع الطبقي في زمن سابق. هنا يلقي الكثيرون اللوم على الطبقة السياسية التي عايشت هذه المرحلة من العولمة لأنها بفشلها واسع النطاق في حل هذه القضية فقدت ثقة الشعوب في قدراتها وسقطت في عيونهم فصار ما صار من ثورات ملونة في أوروبا الشرقية وثورات ربيعية في العالم العربي، وما زلنا نشاهد ونتابع بغير قليل من الذهول ثورة السترات الصفراء في فرنسا وثورة اللحمة الوطنية في السودان وخيبات أمل قطاعات من الهنود في حكومة التطرف القومي والديني وثورة الجوع في فنزويلا والإنذارات المتكررة من شعب تونس إلى الطبقة السياسية أن اتعظي قبل أن نغضب غضبة ثانية، ومظاهرات احتجاج ومظاهر عدم استنكار في معظم أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء.
هذه الأشكال المتنوعة للتمرد لم تكن التطور الوحيد الذي نتج عن فشل الطبقة السياسية الحاكمة في دول عديدة تعرضت من بعيد أو قريب لرياح العولمة. أنتج الفشل أيضا عزوف قطاعات من الناس عن الديمقراطية فكرا وممارسة، وراحت تحتشد وراء شخص يقودها أو يقود حركة سياسية شغوفة لضم هذه القطاعات إليها. هي الترامبوية في أشكال محلية تختلف من بلد إلى بلد ولكن تجتمع في الغالب على دعوة يمينية قومية أو اثنية أو عنصرية أو طائفية. بدأت في الغالب كحركات متمردة على السلطة ورموزها وعلى مؤسسات الدولة وعلى علاقات الدولة الخارجية غير العادلة وعلى الفجوة بين الحاكم والمحكومين. من قادة هذه الحركات أوربان في المجر وكاتشينسكي في بولنده وبولسونارو في البرازيل وموراليس في بوليفيا وإن رفض كثيرون إدراج هذا الأخير في قائمة قادة الحركات الشعبوية، أضيف بطبيعة الحال نارندرا مودي من الهند وحكام إيطاليا الجدد، وعلى رأس القائمة بطبيعة الحال السيد دونالد ترامب. يجمع بين هؤلاء كراهيتهم المعلنة للطبقة السياسية وحرصهم الخطابي على مكافحة الفساد وحربهم الصريحة ضد منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والأقليات المنظمة واستخفافهم بالدبلوماسية كمهنة اتصال وتفاوض بالدول الأخرى. يجتمعون كذلك على الفشل، كفشل الأسبقين، في حل المشكلات المعلقة والمتعلقة بسلبيات العولمة ومخلفاتها مثل الأزمات المجتمعية المتلاحقة والقصور في أداء العمل السياسي الدولي. يعزى ذلك ربما إلى نزوع أغلب هؤلاء القادة الشعبويين إلى إهمال المؤسسات ورفض الاعتماد عليهم واللجوء مباشرة إلى الشعوب.
فهمنا من قراءة التاريخ، وبخاصة المعاصر، أن الشعوب ليست كما يتردد، السند الدائم والمضمون لحاكم أو حكم يفضل أسلوب التعامل المباشر مع الشعوب على التعامل معها عبر المؤسسات والنقابات وعبر الصحف حيث تتوفر وتتعدد الآراء. الشعوب مثل معظم المخلوقات يمكن أن يعتريها الملل. تمل اللحن الواحد والرأي الواحد والشخص الواحد والصحيفة الواحدة. أتصور، وإن كنت لا أتمنى، أن يترك ترامب جروحا غائرة في الجسد السياسي الأمريكي نتيجة هجماته الشرسة على الصحافة الأمريكية، وكلماته الجارحة التي يتحدى بها صبر خصومه. هذه الجروح يمكن أن تسمم على امتداد السنوات القادمة مهنة الصحافة في أمريكا، وأظن أن شيئا ما فاسدا أو مسموما أصاب بالفعل هذه المهنة في دول أخرى غير قليلة.
أخشى أيضا أن يمتد التخريب الذي تمارسه يد الحكم الشعبوي في دول مثل البرازيل والولايات المتحدة وإيطاليا إلى أجهزة العمل الدبلوماسي في تلك الدول فتفقد جانبا من صدقيتها وسمعتها. سمعت من يحذر من قصور يصيب هذه الدبلوماسيات وغيرها ويلتصق بها في المستقبل. جاء ما سمعته في صلب تعليق من أحد الدبلوماسيين الأجانب على خطاب مايك بومبيو في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. قليلون خرجوا راضين عن خطاب لا يحمل رسالة ولا يستحق شرف أن يصدر عن أكبر الكبار في الدبلوماسية الأمريكية. خطاب للتوضيح فلم يوضح وللتبرير فلم يبرر وللإقناع فلم يقنع. أخشى أن يصير خطاب كهذا في السنوات القادمة نموذجا للاحتذاء عند دبلوماسيات دول تخضع للشعبوية أسلوب حكم. نموذج لخطاب لا يقول شيئا والظرف ظرف أزمة والأعصاب مشدودة في مواقع عديدة بالإقليم. مرة أخرى خلال عامين يخرج الحاضرون من حفل سياسي أمريكي غير مصدقين، أو قل مذهولين.
لا مبالغة في القول إن كلا من الاتحاد الأوروبي، أحد نماذج العولمة، والمملكة المتحدة لن يخرجا من معركة البريكسيت بحال أفضل. البريكسيت انتفاضة ضد العولمة وككثير من الانتفاضات لم تستعد ببديل. الوحدة الأوروبية مهددة وإذا تهددت هذه الوحدة تهدد سلام العالم. والمملكة المتحدة مهددة أيضا في وحدتها ورخائها ومصير ديموغرافيتها.
لا جديد في التذكير بأن العالم والصين فيه دولة عظمى تتربع، أو كادت تتربع، في مقعد من مقاعد القيادة الدولية، لن يحمل سمات العالم الذي أتت منه الصين. غير خاف على متابع لصعود الصين إن كان هذا الصعود بشرى خير أم نذير شر. الصين الجديدة إحدى أهم ثمار العولمة 3 وها هي تجول وتصول بمبادرة الطريق والحزام تنسج بنفسها ولنفسها دورها في عولمة جديدة بشروط مختلفة ومبادئ مختلفة وتحت منظومة قيم مختلفة.
كان يحدونا أمل أن نتخلص كعرب من عدد غير قليل من سلبيات العولمة قبل أن نلتحق أو يلحقوننا بعولمة جديدة. لحقت بنا حتى التصقت سلبيات جربنا نزعها وأظن أننا لم نفلح. قد نفلح لو جربنا مرة أخرى فنتأهل عند ذاك لنختار لأنفسنا دورا في عولمة السيد شواب الجديدة، العولمة 4.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق