لا تحزنوا عليه. إنه ماضٍ إلينا. يلتحق بأحياء ما زالوا على قيد الإيمان بالحقائق، وملتزم برهافة الحرية، وصفاء الصدق.
كان وحده وحيداً. لم يتجرأ أحد أن يُصيبه بخطيئته. خافوا منه ولم يخف منهم أبداً. خوفه كان على لبنان وشعبه. ثابتاً انتمى إلى حراس الأمانة. ضميره حذوَه. الحق مسراه. الصدق مذهبه. عفة اليدين تؤهّله ليكون ولياً أو..
أتساءل: من أين جئت؟ لا تشبههم أبداً. كأنك قادم من تاريخ آخر. من لبنان الصورة والأسطورة. مارستُ جرأة بلا صراخ ولا صياح. كنت أنتَ دائماً تتطلع إلى أفق يناديك وتحلم به.
لنقترب قليلاً من الوقائع. السياسات في لبنان مُعيبة حقاً. منتهكة بصوت مرتفع. القوانين: حدَّثني فلان عن فلان.. إنّه وزير برتبة منافق، وذاك برتبة لص، وذاك برتبة انتهازي، وذاك برتبة كاذب عبقري!
لا تبرئة لأولئك الذين خذلوه. انحازوا ضده. أمسكوا بذيول المواكب السياسية. الانتهازية دين رائج. السرقة حلال مصان. القضاء: يا عيب الشوم. المثقفون: أين أنتم؟ أفي كل طائفة تهيمون؟
هذا سليم الحص.. لم يكن عابراً أبداً، ولو ظلّ وحيداً. وحدته جائزة له. دليلٌ على أنّه لا يشبههم. صمته المبرم شكّل إدانة لطبقة بأسماء متناسلة من أرحام النسق المالي والانتهاز الإداري وتحويل الإعلام إلى ببغاء يحتفل بكذبه وترداد كلامه.
هذا سليم الحص.. فليتجرأ أحد باتهام واحد له. قد يُقال: لم ينجح. صحيح. النجاح عندهم مؤكد. أتباعهم بالآلاف. نعاجهم بعشرات السنوات. أصابوا ثروات فاحشة، بعرق جبين النصب والاحتيال والسرقات المعلنة.
لبنان مكشوف. ليس فيه دولة مخابرات بوليسية. ارتكاباتهم واضحة ومكشوفة ومُعلنة، ويتناولها “الغلابى” بصوت مرتفع. يهتكون أعراضهم. لا يشعرون. يُسمّونهم بأسمائهم وسرقاتهم ونهبهم وحتى.. خياناتهم.. لا عجب أبداً. هذا هو لبنانهم..
لبنانهم هذا، مؤيد ومدعوم، من جماهير طائفية، لا تُحاسب، بل تُدافع عن المرتكب.
غريب هذا اللبنان. برهن أنه شاطر جداً في كل الارتكابات، وماهر جداً في تسخيف الأوادم وعزلهم واتهامهم بأنهم يعاندون. هم من جماعات ترفض أن تبوس اليد وتدعو عليها بالكسر.
هنيئاً لسليم الحص.
لأنّه ظلّ من ذوي الصراط المستقيم.
في تاريخ لبنان، رؤساء ووزراء ونواب ومدراء ومسؤولون، وبرغم كثرتهم، فإنهم قلّة قليلة، وهذه القلّة، تم اغتيالها بالنسيان، أو بالأحرى، بالتناسي.
في الإنجيل نص بليغ: منِ اتضع ارتفع، ومن ارتفع اتضع. الأوادم، وهم كثرة ولكنهم تشتتوا. أصبحوا لا يلتقون. كلُ آدمي في صومعته. كأن يأساً أصاب رجالاً ونساءً وطلاباً وطالبات وأهل اختصاص، وأصالة أخلاق..
تحار وتسأل: لماذا تركتم هذا “الرائع” وحيداً؟ سليم الحص ملأ بنفسه وبعض حوارييه فضاء يومياته. لم ينتقم. دماثته من نوع أصيل. الكلام الذي يُضر، ولو كان حقيقياً، يجب لجمه.. يُدان الفعل ويُترك القول..
راهناً، القول أولاً..
غريبٌ: “الإعلام” في لبنان؟ نقطة على السطر. ولا يطيب لنا أن نسأله عن أحوال اللبنانيين. أموالهم المنهوبة. اقتصادهم المسروق. قضاؤهم المقضي عليه.
غريبٌ، لعل نوعاً من “التمسحة” أصاب اللبنانيين. الفضائح والجرائم والارتكابات أمثال يومية. فالصو! لا أحد يلتفت إلى وجع الناس. إلى مآسيهم. إلى بؤسهم. إلى مآسيهم. ويتبارون، إعلامياً – في سوق الصراع الوجودي في فلسطين. إلى زواريب المنافع والقهر والفتك.
يا ويلكم من دينونة الضمير، إذا استفاق. ضمير سليم الحص، هو من يملي عليه. أين ضمير الناس؟
لبنان، لم يعد قابلاً للحياة، إنه يُتقن فن الإقامة في العدم. والأدلة كثيرة: ما الذي تدمّر حتى الآن؟ ومن دمّره؟ الآخرون أم أنتم؟ ماذا كان موقفكم من الارتكابات الحكومية؟
أين الكهرباء؟ الجواب: تم توزيعها علناً وعلى عينك يا تاجر على أصحاب الموتورات.. ترى، لماذا تستمر وزارة الطاقة بالوجود؟ القضاء اللبناني قضى على نفسه بنفسه وبضغوط السياسيين وشهوات القضاة؟ بح. لا مساءلة ولا محاكمة ولا عقوبات..
إنسوا 4 آب. خلص. قلة قليلة تسير في مأتم دفن المرفأ المتفجر أو المُفجَّر. التعليم الرسمي؟ يا حيف. كان يُنافس التعليم الخاص. صار ملجأ الغلابى. المستشفيات الحكومية فاشلة بتواطؤات مريبة. المجد والصيت للمستشفيات الخاصة. سرقات بالمليارات.. الأشغال العامة والطرق، بيد الملتزمين المتزلّمين لقادة، والذين ينالون حصتهم قبل التنفيذ.
إلى آخره.. في الزراعة، والتجارة، والدواء، والأسواق.. وكل ما كان للدولة التي نُهبت وأفسلت وبيعت.
هل كنت رئيس حكومة؟
يقول الحص: كنت رئيس وزراء، ولم أكن ولا مرة، رئيس عصابات.
هذا نمط من سياسيين، برتبة أولياء أو قديسين.
لن ندفن سليم الحص.
سنبقيه حياً معنا. نحن بحاجة إلى سيرته. إلى نقائه. إلى ثقافته.. وإلى مسيح يحمل السوط والصوت عالياً: “بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”.