نزلت من سيارتي ومشيت نحو باب حديقتها لتفاجئني بوجودها في استقبالي. وقفت بشعرها الأبيض تتطاير بعض خصلاته مع نسمات خريفية. أشفقت على وقفتها في انتظار وصولي. تعمدت ألا تطول مراسم الاستقبال فكان أن بادرت بخطوة خطوتها نحو ممشى في الحديقة لا أعرف إلى أين يأخذني. لحقت بي وهي تؤكد أن لا حاجة تدعوني للخوف عليها من لسعات برد الخريف. تجاوزتني ومشت أمامي. لم تتوقف عن الكلام. جمل قصيرة وكلمات مختارة بعناية، كل حرف فيها في مكانه. خطواتها، أمامي ثابتة وخطابها بدون أخطاء ومدرب وذاكرتها حاضرة. أرادت أن أراها على طبيعتها، سيدة كبيرة في العمر بعقل ورشاقة وأناقة سيدة لبقة وذكية في منتصف العمر.
***
أمسكت بذراعي تقودني نحو المكان الذي اختارت أن أجلس فيه. حاولت كعادتي في مثل هذه المواقف أن نتبادل الدور. أمسك أنا بذراعها لأقود. توقفت وأدارت وجهها ناحيتي لتقول، لعلك لا تذكر أنني كنت أقود وأنا أعلمك الرقص. كان حفل وداع رحلتنا الجامعية في أسوان. تذكر أننا قضينا اليوم الأخير في الرحلة نخمن ماهية المفاجأة التي وعدنا بها الدكتور إ. ص. المشرف على الرحلة. كم كانت سعادتنا وكم علا صراخنا فرحا حين زف إلينا خلال العشاء نبأ دعوتنا جميعا لحفل راقص. كان رجاؤه الوحيد أن نتجنب تناول مشروبات كحولية. رقصنا حتى الفجر ولم نشرب.
جلست حيث قررت مضيفتي أن أجلس. غابت عني لمدة تقل عن الثانية وعادت لتجلس بجانبي. بعد قليل ظهر رجل أنيق يرتدي بذلة سوداء يحمل صينية من الفضة وضعها أمامنا. واستأذن قبل أن ينصرف. قلت كيف لا أذكر وقد كانت ليلة من أحلى ليالي العمر. قالت كنا في السادسة عشر من عمرنا. هل تعلم أن لا أحد من مجموعتنا فشل. كدنا نحقق كل ما كنا نحلم بتحقيقه. تعرف طبعا أن ما لم يتحقق كان لأن ظروفا خارجية تدخلت عطلت مسيرتنا كأفراد ومسيرتنا كأمة.
***
دخلت علينا سيدة غطت الأقمشة بألوانها الخافتة كل جسمها العريض والممتلئ. اقتربت من حيث جلست فنهضت متوقعا تحية باليد لم تحدث. لم تمد يدها ومن حسن حظي لم تكن يدي امتدت. هذا على كل حال ما دربوني عليه وأنا صغير. أن لا أمد يدي لسيدة أحييها قبل أن تمد يدها. قامت صاحبتي بواجبات التعريف. ابنتي. طبعا لا تذكرها، أو لعلك لم تلتق بها قبلا. ولدت في الخارج ونشأت وتلقت تعليمها في مصر. لم أجد وجه شبه واحدا يربط الأم بابنتها. تأكدت حين تكلمت الابنة. الأم تتكلم عن الأيام الزهرية التي عشناها. تكلمت عن الأحلام الكبار. عن الحب وعواطف الصداقة والزمالة والقرابة. جرتنا إلى الحديث عن تاريخ الموسيقى والغناء الشعبي وحفلات الروك ثم إلى الاكتشافات التاريخية الكبرى لتعود بنا إلى عبقرية المصريين وطقوسهم في الحكم وعلاقاتهم بآلهتهم.
الابنة تنظر إلى مسبحتها وتهز رأسها بما يعني لنا أنها تشارك. لم تلتق عيوننا. أجادت غض البصر. لم أطق رؤية الأم تتحمل وحدها تنفيذ واجبات الضيافة فوجهت للابنة الصامتة سؤالا دون أن أكلف نفسي عناء النظر إليها عساها تهتم بوجودي فتنظر نحوي. انطلقت في الكلام وليتها ما فعلت. رأيت بطرف عيني الأم نحيلة القوام تنكمش في ركن الأريكة التي شاركتني الجلوس عليها. في عينها ما يشبه الخجل المشوب بالألم. لم يخرج حديث الابنة عن عذاب القبر ونار جهنم وفخامة البنايات الشاهقة والفخمة التي تحيط بالكعبة. وجدتها موسوعية المعلومات عن فتاوى الشيوخ، شيوخ السعودية وشيوخ مصر وشيخ المجموعة التي تشرف بعضويتها واجتماعاتها الأسبوعية. تسأله عن كل كبيرة وصغيرة في حياتها الشخصية. بمعنى آخر هذا الشيخ يستطيع أن يغير خيارات شباب وبكلمات منه يقرر مصائر عائلات. تذكرت شيخا من نفس هذه العينة من الرجال عاش سنوات عديدة يصنع مصير الأمة المصرية. حديثه كالسحر يسلب الألباب. يهين سامعيه وهم راضون. يزيف التاريخ والدولة فيما يخصه مسلوبة الإرادة. هذا الرجل وغيره مئات بل ألوف تلقوا تعليما دينيا من نوع شديد التطرف وجمعوا ثروات هائلة. جاءتهم الأموال من الخارج دفعوا منها لمن يخصص من أصحاب العمارات طابقا كمسجد مزود بمكبر صوت يعمل طول اليوم. كلفتهم سلطات دينية أعلى منهم ببث أفكار متطرفة ونشر الخرافات وسير الرعب والترهيب في بيوت مصر ومدارسها وقصور حكمها وجامعاتها. نجحوا. أفرزوا هذه السيدة التي جلست أمامي.
***
نهضت آسفا. تحركت نحو الباب الذي دخلت منه إلى هذه القاعة. أوقفتني صاحبتي. قالت اتبعني فستخرج من الباب الرئيس. وقفنا نتحدث في الردهة حديث الشكر على كرم الضيافة والوعود بلقاءات أخرى. قطع الحديث موجة رنين أجراس وقرع أبواب وأصوات تستعجل فتح الباب الخارجي. انفتح الباب لتدخل منه مندفعة نحونا فتاة بشعر غجري منتشر عشوائيا على كتفيها وصدرها. ترتدي بنطلون الجينز ممزقا في أماكن كثيرة. بدا لي أن ما انكشف من ساقي الفتاة بفضل فراغات الجينز كان أكثر مما ستر. قامت جدتها بمهمة التعريف. سمعتها تقول هاي، سمعت عنك في المكتب وترجمت لهم بعض كتاباتك. أنا شخصيا لا أتحمس دفاعا عن كثير من أفكارك، أنت وعديد من المفكرين لم تتوصلوا بعد لفهم ذهنية جيل الألفية. سوف نسقط قلاع التشدد وأنت تعرفها. لن نسمح لأحد يأتي من الخارج يشوه بأفكاره المتطرفة جيلنا كما شوه جيلا من قبلنا. سوف نتحالف مع شباب الصحراء لنصنع ثقافة تحترم عقولنا وحرياتنا. ناديناهم من التحرير. تأخروا وها نحن نراهم على متن سفينة تنقل البلاد والعباد من عصور تحجرت إلى عصر تغيير وتنوير.
أنا لست مثل أمي ولن أكون. ولست مثل جدتي ولن أكون.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق