ما زالت توصية هنري كيسنجر إلى الرئيس دونالد ترامب بالعمل على وضع العراقيل أمام صعود الصين إلى القمة وأولها الحيلولة دون قيام حلف بين الصين وروسيا أو حتى علاقات وثيقة بينهما، ما زالت مصدرا لاهتمام مراقبي العلاقات الدولية ومهندسي السياسة الخارجية في دول كثيرة، وبخاصة بعد أن ثارت اجتهادات حول توقيت إعادة الإعلان عنها.
***
قيل بين اجتهادات عديدة أن الإعلان عن نصيحة أو توصية كيسنجر جاء متعمدا في صياغته وتوقيته. فالإعلان يؤكد أن كيسنجر وجه نصيحته إلى ترامب خلال الحملة الانتخابية أي قبل عامين، وإن كان كررها على مسامعه مرتين على الأقل خلال وجوده في البيت الأبيض رئيسا للولايات المتحدة. تساءل أحد المراقبين في دهشة مبررة عن حقيقة أن أحدا من المرشحين الآخرين لم يعقب على الإعلان مما يعني أن كيسنجر اختص بالنصيحة الثمينة المرشح ترامب المتمرد وقتها على قيادات الحزب الجمهوري والمستبعد فوزه من جانب الغالبية العظمى من صناع الرأي وعلماء السياسة. مراقبون آخرون أعربوا عن رأي أيضا مبرر يرى في الإعلان محاولة باهظة الثمن من جانب خبراء في البيت الأبيض أو في الحزب الجمهوري لتبرير جهود الرئيس الشخصية للتقارب مع السيد فلاديمير بوتين رئيس الاتحاد الروسي، وهو الزعيم الأجنبي الذي يحظى بكره لافت من أغلبية كبيرة في أوساط الطبقة السياسية الأمريكية. الاجتهاد الثالث، وقد حرصنا على تسجيله ليس فقط لأهميته ولكن أيضا لبساطته وصدقيته، يصدر عن علماء في العلاقات الدولية قرروا أن هناك من المؤشرات ما يكفي للدلالة على أن الصين استحقت بالفعل موقعا في القمة الدولية وأنها لم تعد في انتظار تصديق أو تصريح من الولايات المتحدة، القطب الأوحد في القمة. في اعتقاد هؤلاء المراقبين أن إعادة الإعلان الآن يعني أن الولايات المتحدة تنبهت متأخرة إلى السرعة التي صعدت بها الصين خلافا لكل التوقعات بما فيها توقعات الصينيين أنفسهم، وما على واشنطن الآن إلا أن تشمر عن ساعديها وتبدأ المواجهة المحتومة مع القطب الصاعد. المثير في هذا الاجتهاد أنه يخفي تناقضا ملفتا. إذ كشفت أحداث الأسابيع الأخيرة عن أن الرأي العام الأمريكي ومؤسسة التشريع ما يزالان رغم كل جهود الرئيس يعتبران روسيا، وليس الصين، الخصم والمنافس.
***
في رأيي وآخرين، بينهم آسيويون، أن أمريكا لو حاولت الوقيعة بين روسيا والصين فسوف تقابل مقاومة قوية من الدولتين ولن تحقق هدفها في وقت قصير أو بيسر وبساطة. إذ نجحت الصين وروسيا عبر سنوات من العمل الهادئ والتراكمي في إقامة أساس قوي يمكن للدولتين أن يشيدا عليه صرح علاقات ثنائية متميزة وقادرة على الصمود في وجه مرحلة خطيرة ومتوقعة حتما، هي مرحلة صنع توازن مناسب للقوة في قمة دولية جديدة. توصلت الدولتان إلى الشراكة كصيغة تعكس بالدقة الكافية واقع وثمار عمل متصل استمر زهاء عقدين من الزمن، ومن جانبي وبعد تأمل عميق في ثمار تلك المرحلة أستطيع الحكم بأنهما أحسنا الاختيار فالشراكة توفر مرونة لا يوفرها التحالف. أظن أنهما في مرحلة من المراحل اقتربا من الحدود الفاصلة بين الشراكة والتحالف، وأن الصين ربما كانت الطرف الذي أوصى باعتماد الشراكة ورفض التحالف. كانت أيضا حريصة على أن يعرف الغرب أنها وروسيا وصلتا فعلا إلى هذه الحدود ولم يعبراها.
***
أعتقد أنه لم يكن أمام الدولتين سوى إقامة علاقة ثنائية قوية خلال مرحلة لعلها من أهم المراحل الانتقالية في التاريخ الحديث. دولتان إحداهما تسعى لاستعادة مكان كان من حقها في القمة الدولية والثانية تصعد بتؤدة وحكمة بالغة نحو القمة لتحتل مكانا ترى أنها سوف تستحقه. بمعنى آخر حرصت الدولتان على الاستفادة القصوى من إيجابيات العلاقة بينهما وإهمال السلبيات.
خذ أولا: هذا العمق الاستراتيجي الفريد في الشمال الذي يعوض الصين عن جنوب مفعم بالنزاعات وشرق تقف فيه أمريكا للصين بالمرصاد في مياه تايوان والمحيط الهادي وفي قواعد بكوريا الجنوبية واليابان.
ثانيا: سيبريا ليست فقط عمقا استراتيجيا بل هي أكثر من ذلك. هي ساحة صديقة لإجراء تجارب على أسلحة وتكنولوجيات حديثة بعيدا عن عيون الغرب ومراكز الكثافة السكانية في الصين وروسيا. لم تكن خافية المصلحة الروسية المباشرة من وراء تسليح الصين بأسلحة حديثة، فالقوة المتصاعدة للصين سوف تجبر الاستراتيجية العسكرية لدول الغرب وبخاصة أمريكا إلى الاهتمام بالشرق الأسيوي على حساب الاهتمام بالدفاع عن أوروبا ضد روسيا، وهو بالفعل ما حدث خلال عهد أوباما ومستمرة عواقبه إلى الآن في أزمة حلف الأطلسي.
ثالثا: خذ أيضا حاجة كل دولة للأخرى في هذه المرحلة إلى درجة مثيرة للاهتمام. تعرف الدولتان مثلا أن نظام الحكم القائم في كل منهما تهدده مصالح ومؤسسات غربية حريصة على فرض الديموقراطية الغربية نظاما للحكم في كل من الصين وروسيا. تدركان أن كلا منهما في أمس الحاجة إلى دعم من الأخرى في مواجهة إجراءات مقاطعة أو حملات إعلامية أو عقوبات أو اختراقات أمنية تخطط لها أو تنفذها دول غربية للإضرار بالاستقرار السياسي في كلا الدولتين. لاحظنا ارتياح الصين إلى فوز بوتين في انتخابات الرئاسة الأخيرة وقبله كان ارتياح موسكو إلى التغييرات التي أدخلها الرئيس شي على نظام الحكم في الصين.
رابعا: المصلحة المتبادلة في علاقة الشراكة هي التي سمحت للصينيين بالحصول على كثير من أسرار التقدم التكنولوجي في روسيا وبخاصة في نظم إنتاج الصواريخ. سمحت أيضا للصين بتنفيذ الجزء المتعلق بأسيا في مبادرة طريق الحرير. فالطريق في حاجة ماسة إلى سنوات من السلام والأمن في عدد من دول الجوار الروسي قبل أن تنتقل إلى الجزء الأوروبي. هذا الأمن توفره روسيا القوية. كذلك ففي الجزء الأوروبي سيكون الدعم المعنوي الروسي مطلوبا لمشروعات المبادرة في دول البلقان. من ناحية أخرى وجود علاقة من هذا النوع بين روسيا والصين يطمئن روسيا إلى أن الصين لن تدعم حركات مناوئة لموسكو في هذه المناطق، بل أنها ستكون حريصة على كشف أي تآمر غربي ضد المصالح الروسية في المناطق التي تمر فيها أو تنفذ مبادرة طريق الحرير. سيكون مفيدا معرفة ما توصل إليه خبراء روس وصينيون من ترتيبات تحول دون وقوع تصادم في الأهداف والوسائل بين مبادرة طريق الحرير والمبادرة الأوروأسيوية التي سبق أن أطلقتها حكومة موسكو.
خامسا: مصلحة الطرفين مؤكدة في استمرار تدفق النفط الروسي “الآسيوي” من منابعه السيبيرية إلى الأقاليم الصناعية في شمال الصين عن طريق البحر أو عبر خط أنابيب “قوة سيبيريا”.. تزداد أهمية هذه المصلحة المتبادلة مع كل زيادة في توتر الأحوال في المضايق والممرات العربية وفي الشرق الأوسط عموما.
سادسا: تأمل الصين، حسب رأي البعض وأنا منهم، أنه بفضل علاقة الشراكة بين البلدين وفي الوقت المناسب سوف تجد مبادرة طريق الحرير وغيرها من مشاريع التوسع الاقتصادي الصيني في البلاد العربية المساعدة الممكنة، أو على الأٌقل عدم الممانعة، من جانب موسكو، العاصمة التي يتوقع الصينيون مثل غيرهم أن تهيمن على الشرق الأوسط خلال السنوات وربما العقود القادمة.
***
أعرف أن معظم الإنجازات التي حققتها الدبلوماسية الصينية في السنوات الأخيرة مصدرها أعمال المؤتمر القومي الذي عقده الحزب الشيوعي الصيني واستمر شهورا وخصصه لوضع سياسة خارجية تليق بالصين. أذكر المتابعين للشأن الصيني على صفحة الرأي بالشروق بأنه كان بين المشاركين في أعمال المؤتمر ممثلون عن كافة مقاطعات الصين وقطاعاتها الانتاجية وتياراتها الفكرية وأهم مراكز البحوث والمتخصصون في الأمن والدفاع والقانون. كان المؤتمر تعبيرا صادقة عن فكرة أن السياسة الخارجية يجب أن تكون في نهاية الأمر ثمرة تلاقح كافة مصالح الأمة. وها نحن بعد مرور سنوات على انعقاد المؤتمر ما زلنا شهودا على قفزات متتالية وإنجازات متلاحقة في الدبلوماسية الصينية على طريق الصعود إلى القمة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق