طلال سلمان

رسالة من جدتي

سيدي

أنت، أعني حضرتك، لا تعرفني وأنا لا أعرفك. لا شك في أن هذه البداية أثارت فضولك. أعدك أن أشبع هذا الفضول أو جانبا منه دون أن أتجاوز عهدًا التزمت به كما عودت وتعودت. أبدأ من بعيد. أبدأ من يوم كنت فيه شاهدة على لقاء جرى في حفل عام. اللقاء كان بين اثنين في عمر الكبار. وبالكبار في هذه الرسالة أقصد المتقدمين في العمر، وبالمتقدمين في العمر أقصد من هم فوق السبعين. الاثنان تعارفا قبل خمسين عاما من هذا اللقاء. وقت اللقاء كانت هي في الخامسة والسبعين وكان هو فوق الثمانين بسنة أو سنتين وطلبت مني أن أرافقها.  قدمتني إليه. لست متأكدة إن رآني. تمتم بكلمة أو كلمتين ولم يمد يده ليحييني أو على الأقل ليلتقط يدي الممدودة إليه. أعادت تنبيهه فمد يدا مترددة ناحيتي وبصره متوجه إلى ناحية أخرى، إلى ناحيتها. لا أعرف حتى يومنا هذا كيف وجدت نفسي ألتقط اليد الممدودة بكسل إلى ناحيتي وأعيدها إلى مكانها وعلى وجهي ابتسامة من فهم شيئا لم يفصح به أحد.

كانت لحظة لا تنسى، لحظة لا يمكن أن تتكرر لأنها أطلت من الماضي. وما يطل من الماضي لا يبقى طويلا  أو هكذا كنا نعتقد أنا وأبناء جيلي من الشباب. ما أكثر ما سمعت من جدتي عن هذا الماضي ودور الاثنين،  دورهما أي جدتي والرجل الواقف أمامها، في صنع هذا الماضي أو جانب منه. سمعت منها الكثير واحتفظت به كما كنت أحتفظ بحواديت قبل النوم، تلك التي كانت تحكيها لنا مربيتي وتتحدانا أنا وأخواتي الأكبر أن نأتي بمثلها. حاولنا وما زلت أحاول وفشلت. المدهش أنه خيل لي  في مرحلة أو أخرى أن جدتي كانت هي الأخرى تتحداني أن آتي بمثل حكايتها، أن تكون لي حكاية من نوع حكايتها. كانت تمتلئ بالنشوة وهي تقول “امرأة لم تعش حكاية مثل حكايتي امرأة لم تمارس أطيب ما في الحياة. عاشت ولم تكتمل أنوثتها. دخلت إلى الدنيا وخرجت ولم تحفر لنفسها في سجل التاريخ اسما ودورا”. الحواديت كانت تنتمي إلى ماض بعيد وحكاية جدتي إلى ماض قريب، كلاهما في النهاية من ماض لا يمكن بعثه ومن تفاصيل مستحيل أن  تتكرر.

•••

سيدي

لماذا أنت؟. أنوب عنك في السؤال وأجيب. حضرتك لا شك تذكر أنك كنت من مهد بشكل من الأشكال ليتم اللقاء في أبهى صورة. مهدت له لأنك الوحيد الذي عاصر مرحلة وقوع الطرفين في الحب. كنت أنت الذي تابع صعودهما إلى أعلى مراتبه وكنت هناك عندما أجبرتهما إرادة صارمة على  الافتراق وبقيت أنت الرفيق الخفي الذي يعلم كل ما أخفاه الواحد منهما عن الآخر ولم ينقل لهما ما كانا يجهلان. تزوجت جدتي بترتيب يليق ببنات طبقتها. أما هو فتزوج زميلته في العمل وعندما هجرته راح يجوب العالم. عاش مع كثيرات وعندما اقترب من سن الشيب تزوج مرة ثانية واستقر حتى جاءه منك حسب ظني خبر فرصة لقاء مع الحبيبة الأولى، والوحيدة.

أحبتني جدتي حبا رائعا. عشت معها بعض مراحل النشأة وبخاصة مرحلة المراهقة. انغمسنا معا في الاستمتاع بأسرار لا تخرج إلى طرف ثالث. عرفت منها على مراحل حتى حفظت تفاصيل اول حكاية حب في حياتها، واسمحلي يا سيدي بأن أحطم حاجز التعتيم الذي أقمناه جدتي وأنا لحماية  أسرارنا، ويجئ رفع التعتيم ضمن التكليف الصادر منها قبل رحيلها. طلبت أن أكون معك صريحة في كل صغيرة وكبيرة من حكاية حبها وفي كل صغيرة وكبيرة من واقع ومشكلات حياتي أنا العاطفية، عندما توجد. قالت ونحن نستعد للنوم ذات ليلة أنها تشعر بكثير من تأنيب الضمير. أرادت دائما أن تطلعني على أجمل وأطيب حكاية في حياتها، حكاية حبها، فإن أدارت الأيام لي ظهرها فغاب عني الحب أو غبت عنه فسوف أعيش أنعم  بذكرى حبها، أو أسعي لأن آتي بمثله. سعيت ولم آت بمثله ولا بقريب منه. قالت “يا طفلتي، نعم طفلتي حتى وقد صرت في الأربعين من عمرك، أخطأ الحساب كل منا. أنا لفرط سعادتي جسدت لك نموذجا للحب قدسته وجعلتك لا تريدين غيره. أنت لفرط ثقتك في تعلقي بك وحمايتي لك ولحماستك الشديدة لهذا النوع من الحب وإيمانك به، رفضت كل نماذج الحب الأخرى.  ظلمتك يا أغلى من في وجودي. كنت أتعذب وأنا أراك تتقلبين بين صدمة هنا وخيبة أمل هناك، كنت أراك تجربين نوعا بعد آخر وتخرجين من كل تجربة مصعوقة بقسوة الألم. ليتنا انتبهنا في وقت مناسب إلى حقيقة ناصعة. حبي نوع نادر لم نعرف لا أنا ولا أنت أنه كاد يصنف كأيقونة تراث. لم نعرف أن هذا النوع من الحب صار جزءا من الماضي. كل العناصر اللازمة لصنع هذا الحب اختفت أو تغيرت. الناس ليسوا نفس الناس، والقيم ليست نفس القيم، حتى العواطف والرغبات ليست هي نفسها”.

صحيح كل ما قالته جدتي. بحثت وسعيت وجربت ولم أقابل من بنات وأبناء جيلي ولا جيل أمي وأبي من يفهم في الحب كما مارسته جدتي. لم أجد بين أصدقائي وصديقاتي من جيل أو أجيال قريبة من جيلي من له تجربة مماثلة لتجربة جدتي أو حتى ما يشبهها. قيل لي وأنا في السعي لا أهدأ. “كلماتك كأنها من سيناريو فيلم سينما مصري قديم، أو منقولة من قصص وروايات مشاهير القصصيين المنشورة حوالي منتصف القرن الماضي. نشاهدها أو نقرأها ونسمعها الآن كمادة للسخرية”. حكايات جدتي لم تكن ولن تكون مادة للسخرية. كانت على الدوام وسوف تبقى مادة للارتقاء بالأحاسيس والنفوس والقلوب. سيدي: هل تتغير القلوب كما تتغير الأمزجة؟. عشنا نعتقد أن القلوب ثابتة على معنى ومضمون حب واحد وليس هو هذا الكوكتيل أو الخليط الغريب من رغبات وشغف وأوهام ومظاهر. خدعوا أنفسهم فأسموه الحب.

•••

قالت لي جدتي “يا طفلتي لا تذهبي بعيدا للبحث في موضوع الحب بمعناه الكريم. كثيرون مارسوه أو خبروه أو فقدوه، هؤلاء هم كبار السن. هم ثروة، أو في أدمغتهم وفي قلوبهم ثروة، أهملها المجتمع. لا تستهيني بقدراتهم الذهنية وإخلاصهم للماضي. اذهبي لمن أشرت عليك به. سمعت أنه يثق ثقة كبيرة في ذكاء وصدق هذا القطاع من الناس المهم والمتزايد عددا. ستجدين عنده غايتك، أو بعض غايتك”.

سيدي: اعتدت أن أتبع نصائح جدتي، أنا في انتظار موعد تحدده.

ينشر بالتزامن مع موقع”بوابة الشروق

Exit mobile version