طلال سلمان

رسائلها؛ بين الأم والحبيب والوطن

الرسالة الأولى

نعم يا أمي أحبه الآن كما أحببته أيام كان جارا لنا في بنايتنا. هل تذكرين يا أمي أنك التي قمت بدعوته ليشرب معنا الشاي. قابلتيه عند جارتنا التي وافقت على أن تؤجر له  شقتها الأصغر في الطابق العلوي من بنايتنا. قلت لي صباح ذلك اليوم أنك ارتحت له، رغم أنك لم ترتاحي يوما للرجال والشبان سمر البشرة الذين توافدوا في السنوات الأخيرة بأعداد غفيرة على مدينتنا للانضمام إلى إحدى الجامعتين اللتين فتحتا أبوابهما للطلاب القادمين من الشرق الأوسط.

أعرف وأحس من على البعد كم أنت قلقة. أمي أنا سعيدة. لم أشعر يوما وأنا في بلدي وفي حضنك بمثل هذه السعادة التي أشعر بها منذ وصلت هنا. أمي طبعا أنا أفتقد حنانك وحضنك وأفتقد مدينتي الجميلة. يجب أن أعترف لك أن المدينة التي أعيش فيها ليست في جمال مدينتنا “الذهبية” ولكنها جذابة. تعرفين ما أقصد. يقول كبار السن من أهلها أنها كانت أجمل. ربما هم على حق يا أمي حتى أكاد أجزم أنني أرى الجمال مدفونا في كل مكان، أراه تحت كل بناية جديدة وطريق جديد، أراه تحت المساحيق والحجاب وتحت اللحى.

أمي، تعرفين أنني لا أبالغ، وتذكرين أنني جلت في بلاد كثيرة انبهرت بآثارها أو برجالها أو بنظافتها ولكن لا شيء رأيته في كل حلي وترحالي يوازي اللحظة التي رأيت فيها هذا النهر. عشت على ضفاف الدانوب والراين والدنيبر والفولجا ولم تقم بيني وبين أي منها علاقة حميمة كالتي قامت بيننا، بين الأسمر الساحر صاحب ومنظم المكان بجاذبيته الخارقة وبين  الضيفة الشقراء الناعمة، بين النيل وأنا.

أترك القلم الآن فحبيب عمري على وشك أن يعود. أعدك يا أمي أن يجد البيت نظيفا وغداءه ساخنا وشرابه كما يحبه وامرأته في أبهى صورة. سوف يجدني يا أمي عند حسن ظنك بابنتك. يعود ملهوفا ككل رجل يحب ليراني وأنا لست أقل لهفة. اليوم الطويل  يذوب في هذه اللحظة. بل أكثر من هذا. هي اللحظة التي يتجدد فيها حب السنين، في هذه اللحظة  تتوثق معرفتي به. يحكي لي تفاصيل ما دار في يوم العمل، فخورا بما أنجز فازداد فخرا به، وبين حكاية إنجاز وأخرى أحظى بحضن وكثيرا ما انزاح الحضن ليفسح المجال لتعبير آخر من تعبيرات الحب.

أمي، ما أحلى زماني معه فاسعدي لسعادتي.

 

الرسالة الثانية

أمي، مر وقت طويل لم نتواصل فيه. أحن إلى لمسة يدك فوق شعري تبعثين من خلالها دفقة حب أحتاجها في الأوقات الصعبة. كثرت هذه الأوقات وطالت. ما زلنا نعيش في البيت الذي نزلنا فيه يوم وصولنا من أوروبا. رفيقي وأعز كائن في حياتي، بعدك طبعا يا أمي، ما يزال يفعل ما كان يفعله قبل عامين، أي منذ كتبت لك أول رسالة. بصراحة يا أمي،  يؤدي بعض الأفعال التي تعودنا عليها ويهمل أكثرها. أسألك يا أمي إن كان هذا التغيير من طبائع الحب. يعود في أيام من العمل ملهوفا ولكن ليس في كل الأيام. أكاد أؤكد أنه في معظم الأيام لا يعود ملهوفا. يسألني، بغير اهتمام كبير، عما فعلت في يومي. يسمعني أجيب بينما يطلب صديقا له على الهاتف. أسأله بكل الاهتمام عن عمله وإنجازاته فيه فلا يجيب، وإن أجاب فمجاملة.

من ناحيتي، أعترف بأنني بدأت أشكو الملل في انتظار عودته. صرت أتصل بصديقات أجنبيات مثلي تعرفت عليهن في مناسبات أو في النادي الذي كنا نرتاده بانتظام عقب وصولنا. ذات مرة ووسط الشكوى المعتادة استأذن ليخرج من البيت. عاد بعد ساعة ومعه كلب عمره شهور قليلة. تعمدت، وربما عن فهم خاطئ، أن أذكره بأيام وليال قضيناها معا نتجول في في عاصمة وطني الجميلة وعلي ضفاف الدنيبر قبل أن آتي إلى مدينته الجذابة. عشنا في وطني ساعات بين الزهور وفي الخضرة الرائعة والزاهية في شهور الربيع القصير جدا والصيف الطويل نسبيا وفوق الجليد في الشتاء الطويل جدا. وبعد الركض والتزحلق واللعب أسحبه سحبا إلى البيت لنقضي الليل هو يدرس وأنا إلى جانبه أعرض عليه شرب الشاي أو أدلك له الرقبة والظهر وفي الموعد الذي أراه مناسبا أجره جرا إلى الفراش لينام حتى الصباح، أوقظه والظلام لم ينجل ليذهب إلى فصوله وأساتذته وتلاميذه. هو الآن بالتأكيد يكره جهودي وإصراري على تذكيره بوقت رائع قضيناه معا. كل سنوات الدراسة. أكاد أقول أنه بدوني ما كان أنجز ما جاء إلى مدينتنا لينجزه. أظن أنه يقرأ ما يدور في رأسي فيزداد تمردا وابتعادا. كثرت لقاءاته مع أصدقاء جدد أنا لم أعرفهم حتي بدأوا يزوروننا، ثلاثة منهم على الأقل صاروا يتوددون لي في حضوره وأحيانا في غيابه. أظن، وأنا غير واثقة من صحة ما أقول، أظن أنه كان يعرف ويسكت غير مبال. تعددت أكثر من المعتاد زياراته لعائلته ومن هذه الزيارات كان يعود مثقلا بالهم. يجلس في ركن ساكنا يفكر وإن سألته  اعتذر لأسباب تتعلق بالعمل. صار العمل ومن يعملون أو من تعملن فيه أسرارا لا يجوز الكشف عنها أو التحدث في شئونها.

لم نعد نخرج معا إلا نادرا لمشاهدة عروض في الأوبرا أو لحفل استقبال في سفارة أجنبية. أذهب منفردة إلى النادي. ذات مرة اختلي بي أحد أصدقائه الجدد. تودد كثيرا وأفاض في الإدلاء بتلميحات غير أنيقة وغير ذكية. وفي النهاية وعندما أيقن فشله في الحصول مني على ما يقابل تودده المضني أفصح عن اعتقاده أو معلوماته أن رفيقي واقع تحت ضغط عائلي وفي العمل ليتزوج من مصريه بعينها تساعده في تحقيق طموحاته السياسية في الدولة وأطماعه نحو توسيع نفوذه وسلطاته في دوائر العمل.

 

الرسالة الثالثة

لمن يهمه الأمر

أصارحك القول أنني غاضبة ومفجوعة ويائسة. لا أعرف أين توجد أمي بعد قيام الحرب ونجاح المؤامرة وأتمنى على كل حال ألا تقع في يدها هذه الرسالة. أمي ليست في منزلها وإذا كانت حية وتركته لبيت آخر أو بلد آخر فهي لم تكتب لي عنوانها الجديد. ربما فقدت الحياة مع ما يمكن أن تكون فقدته. الناس تفقد أوطانها مرة في العمر وأنا أفقده مرتين. هؤلاء الأصدقاء الجدد الذين عرفني عليهم  رفيق عمري هم الآن يدبرون فيما بينهم مؤامرة انفصالي عنه واقتسامي بينهم. أرفض بكل ما أوتيت من حب ذات يوم أن أتهمه بالتواطؤ.

 

إضافة متأخرة

خرجت مع كلبتي نتمشى في الحديقة الملحقة بالحي الذي نقيم فيه. جلست على أريكة إسمنتية أبكي. تفلتت الكلبة مني وجرت نحو رجل يبدو على البعد متقدما في العمر. توجهت نحوه لأستعيد الكلبة. رفع رأسه من بين أوراق كان يقرأ فيها ونظر ناحيتي وأنا أحاول سحب الكلبة ودموعي فاضت عن الحدقتين وسالت نحو الخدين، والكلبة تعاند ممسكة بالأوراق ورافضة الذهاب معي. عرض العجوز المساعدة فاستجبت بقولى، تسمعني. وافق واستمع. نهضت متسائلة إن كان يأتي بانتظام في هذه الساعة، ساعة الغروب. أجاب بالإيجاب. حملت الكلبة على غير ما أرادت واختفيت وإياها  وراء أشجار الحديقة عائدتين إلى بيت لا رفيق فيه.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version