طلال سلمان

رادار الذكريات

يرهقني البحث في الذاكرة عن تفاصيل واقعة لم يمر عليها في عديد الحالات أكثر من ساعات قليلة. لست وحدي فكثير من الأقران ممن هم في عمري  مرهقون بقدر ما أنا مرهق. يحدث هذا ويتكرر كل يوم. تدهشنا خزانة الذاكرة التي لا تنفتح إلا بوافر الجهد أمام واقعة قريبة، لكنها  تنفتح على مصراعيها في أول محاولة للبحث عن تفاصيل واقعة حدثت قبل ستين أو سبعين سنة.  لفرط انبهاري صرت أتخيل هذه الذاكرة وقد أصبحت رادارا هائلا يخيم فوق رؤوسنا يحجب عنا المعلومات الأحدث ويفيض علينا بالمعلومات الأقدم بعد أن يكون لغرض في نفس منشئه، قد حلل ثم صنف المعلومة بدقة وكفاءة مصنف وثائق ومعلومات على أعلى مستوى وأودعها مكانا لا تخطئه عين الباحث. يرفض أن يحثه وقت أو ضرورة ويؤكد مرة بعد أخرى أنه سيد قراره والحاكم بأمره.

•••

جرني إلى هذا الموضوع تعبير تردد كثيرا خلال الأيام القليلة الماضية، وكانت أياما تختلف عن أيام سبقتها وفي الغالب تختلف عن أيام أراها تقف قرب الأفق متكاسلة تنتظر إشارة أو أخرى تنضم على أثرها لقافلة الزمن. سمعتهم جميعهم المدعوين إلى الواقعة يأتون على ذكر الطبقة الوسطى المصرية. كل من تكلم أتى على ذكرها باعتبارها الطبقة المزعجة دائما في هذا المجتمع كما في غيره من المجتمعات، أو باعتبارها صانعة المعجزات دائما في  كل الدول، أو باعتبارها المعضلة الأبدية غير القابلة للحل السهل، فهي الحاكمون والمحكومون معا. هي طبقات تتخفى في طبقة أو هي طبقة  واحدة شاسعة الامتداد ومتعددة المراتب كالهرم الأكبر، ولكن مراتب هذه الطبقة ليست في ثبات مراتب الهرم وخلودها. سمعت في هذه الأيام القليلة  من يتحدث عن طبقة وسطى عليا وطبقة وسطى وسطى وطبقة وسطي دنيا وطبقة وسطي حاكمة وطبقة وسطي عسكرية وطبقة وسطى تكنوقراطية وطبقة وسطى بيروقراطية وطبقة وسطى مهيمنة وطبقة وسطى كادحة وطبقة وسطى جديدة وطبقة وسطى عتيقة وغيرها وغيرها. أحيانا يتعب المتحدث أو ينسى عن أي طبقة وسطى يتحدث خاصة وإن مواصفاتها كما وردت في حديثه انطبقت على طبقة وسطى اندثرت منذ عقدين أو ثلاثة ولا وجود لها إلا ضمن طبقة أخرى أعلى أو أدنى تسكن العشوائيات أو تعيش مؤقتا في عدد من المهاجر.

•••

أعود الآن إلى الرادار الذي أخذ على عاتقه مسؤولية تصنيف الأشياء وترتيب طبقات المجتمع وتعريف فصائل الشعب وحدد لنا ما يجب أن نتذكره  من على البعد وما يجب أن يغيب عن الذاكرة لأجل مرسوم. حاولت أن أتذكر فحوى النقاش الذي دار في الأيام القليلة الماضية بانفعال حينا وبهدوء حينا آخر حول ماهية الطبقة الوسطى أو بالأحرى الطبقات الوسطى في المجتمع المصري، حاولت فخانتني الذاكرة. حاولت أن أتذكر تفاصيل مرحلة مبكرة في طفولتي، أو بالأحرى  تفاصيل جانب من حياتي مر عليه أكثر من سبعين عاما. حاولت فانفتحت لي على كافة مصاريعها خزانة الذاكرة. هل هناك من يريد أن أنسى تفاصيل ما دار في واقعة الأمس ويسعى لتعويضي بتفاصيل عديدة عن وقائع وقعت وأنا طفل صغير؟

•••

كنت في الخامسة من عمري. توقظني أمي وتلبسني ثيابا جديدة اشترتها لي من محل كبير بشارع فؤاد الأول، لعله شيكوريل. أذكر واقعة الشراء لأنني جربت الملابس قبل شرائها وكعادتها في كل زيارة لهذا الشارع كانت تكافئ نفسها وتدللني بصحن به ثلاث قطع من الأيس كريم تزينها أنواع من الفاكهة والمربى. كبرت وتبنيت هذه العادة. صرت كلما زرت وحدي أو مع أصحابي هذا الشارع أذهب إلى محل “الأمريكان” الكائن على ناصية شارعي فؤاد وعماد الدين أو فرعه الآخر على ناصيتي فؤاد وسليمان باشا وأطلب هذا الصحن اللذيذ. أذكره، ولا أبالغ حين أقول كلما تذكرته عاد الطعم يهف على ذاكرتي يداعب لساني وحلقي. الغريب أنني اكتشفت في نهايات طفولتي وبواكير مراهقتي أن ترجمة اسمه الفرنسي إلى العربية كانت تكفي لصده ونسيانه، وكلاهما لم يحدث. اسمه بالعربية كما جرى نحته في ذاكرتي  هو “الخنازير الثلاثة الصغيرة”.

أرتدي في الصباح الباكر جدا ثيابي الجديدة وترتدي “سيدة” الخادمة جلبابا جديدا فصلته الخياطة التي كانت تأتي إلى بيتنا يوما محددا لا يتغير من كل أسبوع، وهو اليوم الذي تكتظ فيه شقتنا بعديد الجارات والقريبات من الأهل. كانت أمي تهتم بما ارتدي وبتسريحة شعري وبوجبة غداء في عامود  الألومنيوم المكون من ثلاث طبقات، طبقة للأرز وطبقة للخضار المطبوخ  وطبقة للحلو أو الفاكهة. تحمل “سيدة” العامود وشنطة صغيرة تتسع لكراسة وأقلام متنوعة الألوان والأغراض. تحمل أيضا في كيس منفصل كوبا هو الآخر من الألومنيوم يمكن بالضغط أن يتحول إلى علبة صغيرة إذا فتحت صارت كوبا وإذا ضغطنا على الكوب عاد علبة بغطاء محكم. قلت إن “سيدة” كانت تحمل عامود الأكل وحقيبة مدرسية وتحمل أيضا بطانية صغيرة في حال اشتد ساعد البرد في هذا الصباح النادي. لا أنسى أنها كانت تتلقى تعليمات بأن تحملني لو تعبت من المشي فشكوته لها. نسيت أن أحكي عن “سيدة” الإنسان. كانت “سيدة” المكلفة بحمايتي وحملي عند اللزوم تكبرني بست سنوات. كانت في الحادية عشر عندما كنت في الخامسة ولها مهام عديدة منها اصطحابي كل صباح إلى المدرسة وكل عصر منها، أما المدرسة فكانت للراهبات الألمان وموقعها القريب من ميدان باب اللوق والبعيد بكيلومترات عن منزلنا بشارع سامي الموازي لشارع مجلس النواب. كنا ملزمين بعبور خط الترام في شارع نوبار والدوران حول أسوار وزارة الداخلية وكنت ملزما بعدم التفلت من يد “سيدة” الممسكة بيدي بحزم وإصرار.

سألت بعد سنوات فعلمت أن “سيدة” التحقت للعمل في منزلنا مقابل مبلغ عشر قروش في الشهر تأتي أمها مرة كل عام لتتحصل على جنيه وعشرين قرشا. أذكر بجلاء محتويات القفة التي كانت تدخل بها إلى بيتنا في زيارتها السنوية. أذكر من المحتويات “دكر” بط وفطير مشلتت وجبنة قريش وعيش فلاحي رقيق وزبدة بلدي تحاسبها أمي وبعد يومين تغادرنا إلى حيث تعيش مع زوجها في أعماق “الفلاحين”.

•••

انتقلت فترة لبيت شقيقتي الكبرى في شارع الفلكي القريب من مدرسة الراهبات. بعد سنوات انتقلت شقيقتي إلى شقة في بناية حديثة تطل على ميدان لاظوغلي وامتداد شارع نوبار المنتهي عند سينما ستراند الصيفية. كبرت وكبرت “سيدة” طلبت من شقيقتي أن تأتي بزوجها من الريف حيث يعيش وحده بدون عمل إلى القاهرة، وطلبت من أهلي البحث له عن عمل. استجاب جار لنا فعينته المستشفى “الإسرائيلي” لمهمة النظافة. واستجابت شقيقتي فأخلت لسيدة وزوجها، وقد صار لهما أولاد وبنات، غرفة فوق سطح العمارة وكان صاحب البناية قد خصص عشرة غرف أخرى ليبيت فيها الخدم. هكذا، وبالفعل، بدأت سيدة تتصرف مع أفراد عائلتها الممتدة ومع عمال محلات البقالة والمطاعم والمقاهي في الحياة باعتبارها تنتمي إلى طبقة غير طبقتها، فبحكم المسكن والدخل المزدوج لها ولزوجها واندراج أولادها في صفوف مدارس الحي صارت تستحق أن تتصرف تصرف عائلات الطبقة الوسطى.

•••

مرت سنوات. عدت من الخارج متزوجا ومعي ابن وابنة. زارتني “سيدة” وكانت تعمل من حين لآخر في بيت شقيقتي. زارتني ومعها ابنتها الكبرى وكانت تكبر في العمر ابني بسنوات قليلة. طلبت أن تعيش معنا ابنتها لأنها “مش فالحة” في مدرستها وتريدها أن تكون قريبة من ابني وشقيقته فتتعلم مما يتعلمان وهي فرصة ليعززا بها اللغة العربية التي لم يتقناها لنشأتهما في الخارج. كانت “سيدة” تفخر بأن بقية أولادها جربوا التعليم في معاهد التجارة المتوسطة وخرجوا ليعملوا في وظائف ثابتة الأجر ويرتدون ملابس أبناء وبنات سكان العمارة وأغلبهم أطباء ومحامون وأساتذة في الجامعة. انفصلت عن الريف، بحكم الموقع الجديد وتطلعات أولادها وتجاربها الشخصية معنا على امتداد سنوات عديدة. انفصلت فصارت وأولادها يتحدثون بلهجة المدينة ويتابعون مسلسلات أكدت لهم أنهم جزء من طبقة غير طبقة الفلاحين أو طبقة العمال. أذكر كيف أن ابنة “سيدة” التي استضفناها لتعيش معنا كانت مواظبة مثل ابني على متابعة مسلسل بعينه، انتهى بها إلى أن شجعت ابني على أن يحاول الطيران مثل سوبرمان، ففعل وكسر ساقه فوضعناه في الجبس وظلت ابنة “سيدة” إلى جانبه ترفض أن تتركه مريضا حتى شفي وعاد إلى مدرسته. هم جميعا، أقصد “سيدة” وعائلتها، يمارسون كثيرا مما يمارسه أفراد العائلات التي يعيشون في وسطها لسنوات عديدة يأكلون مما يأكلون ويشاهدون على الشاشة ما يشاهدون ويركبون المصعد نفسه إلى أعلى طابق في البناية، ومن إحدى شقق هذا الطابق يمرون إلى سلم يقودهم إلى غرفتهم عند “السطح”. وعاشت “سيدة” وأولادها وأحفادها في هذه الغرفة لمدة 30 عاما.

•••

مرت عقود عديدة. سألت عن هذا الفريق من سلالة “سيدة” بعد أن صاروا جزءا من تاريخ العائلة. رحل عن عالمنا من رحل، ومن بقي لا يذكر تفاصيل أذكرها كما ذكرتها في السطور السابقة. المؤكد على كل حال أنهم ذابوا في طبقة وسطى أضافوا إليها ربما أكثر مما أخذوا منها.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version