طلال سلمان

ذروة عصر المقاهي الأجنبية في مصر

شبت مراهقتي في مصر على سنوات رخاء أعقبت مرحلة الحرب العالمية الثانية. أذكر جيدا ما بلغنا على لسان مدرس التاريخ الاقتصادي لمصر وما قرأناه لأهم مؤرخي ذلك الحين عن مظاهر الثروة والانتعاش التي حفلت بها سنوات الإعمار والتطوير في بعض أحياء الإسكندرية والقاهرة وبورسعيد وبخاصة تلك التي سكنتها أقليات من أصول أوروبية. هي السنوات، حسب ما أذكر، التي شهدت زيادة صافية لديون بعض دول الغرب المستحقة لمصر وزيادة في أعداد العائلات “الراقية” المصرية المهاجرة كل صيف إلى سان بيارتز والريفييرا في فرنسا وكابري في إيطاليا، وزيادة في الأنشطة الاقتصادية والإعمارية  في منطقة رمل الإسكندرية وزيادة كبرى في أفراد عائلات الطبقة الوسطي المصرية الذين اختاروا شواطئ بعينها في الإسكندرية وبورسعيد ورأس البر لقضاء بضعة أيام أو أسابيع من كل صيف.

***

خرجت لأسواق العمل والتدريب مبكرا، وبفضل العائد المادي المجزي غالبا تمكنت من اكتساب هوايات غريبة ومفيدة إحداها، وهي موضوع مقال اليوم، السياحة في المقاهي الأجنبية في مصر. لا حديث عن مقاهي تلك الأيام إلا ويبدأ بسيرة جروبي والأمريكيين. الثاني أولا. فقد تعرفت عليه طفلا في المدرسة الابتدائية. كنت أزوره بصحبة والدي العاشق لكل ما هو حلو، مذاقا ومعشرا. هناك في الموقع الرئيسي لمحل الأمريكيين المطل على شارع فؤاد الأول قدمني الوالد لصحن معدني كبير نسبيا تطل منه ثلاثة أهرامات صغيرة، كل هرم منها بطعم مختلف وكلها وغيرها مما تزين به الصحن مثلج. كان يحب أن يفاخرني وشقيقتي من بعدي بأنه يتحدث الفرنسية مع النادلة وكانت شقراء أجنبية الأصل فيطلب هذا الصحن مرتين، مرة لي ومرة له، تأكيدا وتصريحا بإجادته اللغة.

***

أما جروبي فتعرفت عليه شابا وعدت إليه مع أسرتي الصغيرة أبا. بدقة أوفر أقول عدت إلي فرعه الكائن بشارع عدلي مع عائلتي. أما فرعاه الكائنان في شارع قصر النيل وفي هليوبوليس فقد شهدا زيارات عديدة بعضها في صحبة زملاء عمل عرب وأجانب. كانت للمحل في قصر النيل تقاليد في الملبس والصوت وكنا نحترمها، أما حديقة جروبي في عدلي فكانت حرة. تردد وقتها أن لجروبي مطعما فاخرا في نفس الموقع الرئيسي ولكن يطل على شارع آخر. وقتها راح جل اهتمامنا في سياحتنا وأشغالنا الداخلية يتركز في المقاهي ولم تحصل المطاعم الأجنبية إلا على النصيب الأقل من وقتنا و”خروجاتنا” ومنها المفضل لي  واسمه “لونيون” وموقعه أمام سينما ريفولي. سألت من يومين فسمعت أن جروبي أغلق أبوابه في انتظار مالك جديد أو في انتظار ما ينوي إدخاله من تغييرات المالك الجديد، إن وجد حقا.

***

لا شيء يعود كما كان. جروبي تحت الإدارة السويسرية لم يستمر بعدها طويلا بنفس الدفء والنظام والجودة. ولا استمر مقهى “لا باس” بعد أن تغيرت ملكيته ولا كورسال في شارع الألفي الذي فضلناه دوما على مقهي السان جيمس ولا ساتشي  وعديد مقاهي الكوربة في هليوبوليس بحسب آراء أهل الضاحية التي عاشرت من الأجانب ربما أكثر من أهل أي حي آخر في القاهرة  باستثناء المعادي وجاردن سيتي والزمالك. صار صعبا أن أعثر على “معمر” عاش في ضاحية من هذه الضواحي المتخمة بحكايات المقاهي الأجنبية.

***

يشهد ذلك العصر بأن للمقهي الأجنبي في الإسكندرية روحا تختلف في كل سماتها عن سمات روح المقهي الأجنبي القاهري. هناك كان الأجنبي مالكا لمقهي أو زبونا له أو عاملا فيه يتصرف ضمن منظومة حقوق وامتيازات لا يتمتع بمثلها المواطن المصري ساكن الإسكندرية. كنا نقارن نظافة الحي الذي يسكنه الأجانب بنظافة الأحياء الخاضعة لسلطة وطنية ونقارن بين المقاهي الأجنبية بقريناتها المصرية وفي كل الحالات كنا نشيد بسلوك الأجنبي وجودة إدارته واهتمامه بزبائنه.

***

مقاه بعينها كانت محل إعجابنا في الإسكندرية لهذه الأسباب ولغيرها. آتينيوس مثلا الواقع على رصيف الكورنيش على بعد أمتار من محطة الرمل كان يتصدر قائمة محطات انتظارنا ولقاءاتنا. كان المقر الأهم لصناعة أفخر أنواع الحلوى الأوروبية. قريبا منه كنا نقضي ليالي نهاية الأسبوع في مقهى كاليثيا، نجلس إلى جانب الشباك ليمر علينا بائع الجمبري أو بائع المكسرات يتبادل معنا أخبار السياسة والاقتصاد ولا يتحرك قبل أن يفرغ من الشباك على مائدتنا “كبشة” فستق وبعضا مما في جعبته من نميمة.

ديليس المطل على تمثال سعد زغلول كان المنافس الأعظم لآتينيوس. هناك مثلا كنا دائما مدعوين من إدارة المقهي أن نختار من أدراج  وخزائن الجاتوهات والفطائر وشتى أنواع المخبوزات ما نشاء ونطلب من النادلة قهوتنا المزودة بالكريمة وعندما يحين موعد انصرافنا نمر على موظفة الحساب نبلغها بما استهلكنا وندفع ما تطلب.

***

إن نسيت فلن أنسى مقهي البوريفاج في الفندق، أو البنسيون العائلي الرائع، الذي حمل هذا الاسم. ذهبت إلى هناك صغيرا وترددت عليه شابا وحرصت على زيارته في كل عودة لي من الخارج. التقيت بالأمس صديقا لديه حكايات مبهرة عن البوريفاج في زمنه. أضفت له واحدة من عندي. قلت أنه في كل مرة وطأت فيها قدماي هذا المقهى قبل خمسين عاما كنت أجد من بين الندلاء اليونانيين والنوبيين من يرحب بي مذكرا بواقعة أو أخرى في إحدى زياراتي عبر عقود خلت.

***

كنت في العشرين من عمري عندما كلفتني المكتبة الأمريكية التي كنت أعمل بها بالسفر إلى بورسعيد للإشراف على فتح فرع لها في بورسعيد.  قضيت هناك أياما “تاريخية”. كنت هناك بعد أيام من جلاء آخر جندي أجنبي ممن شاركوا في حرب السويس ضد مصر. شاهدت الدمار وكنت شاهدا على بشاعة الإنجليز وحلفائهم. عشت فترة الجلاء النهائي لأكثرية الأجانب من ميناء كان يعج بهم. رحلوا ومن بين من لم يرحل صاحب أو أصحاب مقهي “جيانولا” الأشهر بين مقاهي ومطاعم المدينة. هناك كنت أتناول مجددا قهوة الصباح وعشاء المساء قبل أن أعود إلى البنسيون في شقة بمبني قريب من البيت الحديدي.

***

هناك في البنسيون سمعت تفاصيل مثيرة عن أهوال الحرب من السيدة اليونانية صاحبته وبناتها المنشغلات بجمع و”تحزيم” حقائب الرحيل النهائي من مدينة لم يعرفن غيرها طول العمر إلى وطن جديد لا يعرفن عنه إلا اللغة. تفاصيل عريضة عن حكايات عمر سمعتها من نادل مفضل أو من نادلة مفضلة لي أو لأصدقائي من زبائن مطاعم أندريا في الهرم ولونيون وركس وروف الجراند أوتيل في وسط البلد في القاهرة وعشرات خارجها.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version