طلال سلمان

ذاكرة طلال سلمان: “آكو” ثورة في اليمن

في العام 1962، أي في عزّ الحلم العربي، كان المطلوب معرفة المزيد عن الجزائر البلد الذي قدّم مليون شهيد وسار الملايين في شوارع الدول العربية دعماً له. يقول طلال سلمان: “المشكلة الأساسية بالنسبة إلى الجزائريين كانت أنهم لا يتقنون العربية. لغة التعامل اليومية هي إما الجزائرية، وهي عبارة عن عربية مكسّرة مختلطة بالفرنسية، وإما الفرنسية. كلّ المتعلّمين كانوا يتحدّثون بالفرنسية، ولم تكن العربية مألوفة عندهم لذا كانت لدينا صعوبة في إقامة حوار جدي”. كان الأمر مربكاً بالنسبة إلى شخص يعتبر أنه ذاهب إلى الجزائر ليدلّ إلى عروبتها “فإذا حكيت مع أحدهم بالفرنسية لن تكون مرتاحاً. أنت يصعب عليك تقبّل الأمر وهو يصعب عليه أن يعبّر تماماً عن نفسه باللغة العربية. لكننا حاولنا بالقدر المتاح أن نفعل مثلهم، أن نخلط في كلامنا حتى يتحقق حد أدنى من التواصل. لم يكن الموضوع لطيفاً بالنسبة إليه “لأن النظرة إلى قضية الجزائر كانت على أنها قضية تحرّر وطني، في حين لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى الجزائري. أتذكر أننا التقينا بأحد أركان جبهة التحرير حسين آية أحمد، الذي كان واحداً من القياديين الخمسة الذين اختطفتهم فرنسا وسجنتهم. آية أحمد من زعماء البربر، وهذا أمر عرفناه لاحقاً، وكذلك كريم بلقاسم. في ذلك الوقت لم تكن قضية العرب والبربر مطروحة، ربما كانت مطروحة في السياسة ولكن ليس بالحياة اليومية، وكانت لها حلول كثيرة. يعني الجزائر بلد يضم قوميتين، ونتيجة الدعم العربي للثورة طغت القومية العربية فصرنا نفترض أنهم عرب حصراً”.

“آكو ثورة في اليمن”

خلال وجوده في الجزائر، تلقى طلال سلمان اتصالاً من صديق عراقي، قال له بصوت متهدّج: “عيني ما تدري، ما تدري، آكو (هناك) ثورة في اليمن آكو ثورة في اليمن”، وصار يبكي.
الاحتفال باستقلال الجزائر، واندلاع ثورة في اليمن ضد حكم الإمامة، أمران شكلا تعويضاً كبيراً عن الانفصال “إذا بدك كقوميين عرب بشكل ما كان هناك نوع من الرضا. يعني صحيح صار انفصال لكن الحلم مستمر. الثورة في الجزائر تنتصر، وبينما أنت تحتفل بها تحصل ثورة في اليمن. كان لدينا شعور بأن جيلنا يغيّر التاريخ. يغيّر تاريخ المنطقة كلها. كانت الجزائر آخر بلد خاضع للاستعمار، وها هي تتحرّر. شيء في الأحلام. صحيح راح مليون شهيد بس بتحس إنوا راحوا بالمحلّ الصح”.
مع اندلاع الثورة في اليمن، أرسل جمال عبد الناصر قوات لمناصرتها واستعاد الكتير من شعبيته في حينه… التي سهتز مجدّداً مع هزيمة العام 1967.

نكسة 1967

يربط طلال سلمان الحديث عن نكسة العام 1967 بحرب اليمن “التي أنهكت الجيش المصري وكشفت عن عورات كبيرة فيه”. وإلا، فإن العرب كانوا متحمّسين للحرب ومتأكدين من القدرة على الانتصار. فقد كانت المنطقة تعيش أجواء الحرب بعد قرار عبد الناصر سحب قوات الطوارىء الدولية من مصر، وهي القوات التي أرسلت إلى مصر بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. “كنا سعداء لأننا نحن من اتخذ القرار بأن تخرج قوات الطوارىء، وكنا نعتقد أنّ كل شيء جاهز في حال حدوث حرب إلى أن كان يوم 5 حزيران 1967”. في ذلك اليوم، كان الجميع أميَلْ لتصديق ما تقوله القاهرة عبر صوت العرب، ولم تظهر الفجيعة كاملة إلا في اليوم التالي، “عندما لم ينجح المشير عبد الحكيم عامر في تفقد عسكره لأنه لم يجد مطاراً بعدما ضربت اسرائيل معظم المطارات في سيناء”. حلّ الوجوم على وجوه الناس وعمّ الشعور بالخسارة، الشعور بكارثة جديدة.
كان سلمان قد عاد إلى لبنان وعمل في مجلة “الحرية”. من أبرز الأشياء التي يتذكرها “بل وكنت متسبّباً فيها، هي غلاف المجلة الذي كتبت عنوانه بيدي “كلا، لم يخطىء عبد الناصر”، وفي المضمون أضفت أن العرب لم يُهزَموا وأنها حرب مفتوحة ضد اسرائيل. طبعاً كتبت ووافق الشبيبة لأننا كنا نحبّ أن نصدّق ذلك، لكننا إلى حدّ كبير كنا قد عرفنا أن الأمور ليست كذلك، واتضحت الصورة بعد أيام وأطلّ عبد الناصر في خطابه الشهير الذي اعترف فيه بأنه المسؤول عن النكسة وقدّم استقالته. هذه الاستقالة أشعرت الناس بأن هناك نكسة ثانية، فنزلت الجماهير إلى الشوارع في كلّ مكان، وفي مصر بشكل خاص، رافضة تحميله المسؤولية. وجّهت الاتهامات كلّها إلى عبد الحكيم عامر ومن معه، واعتقلوا خصوصاً أن هناك حسابات قديمة مع عامر، ترتبط بمواقفه خلال الوحدة مع سوريا وبأدائه خلال حرب اليمن. تجربتان أثبتتا عدم كفاءته وعدم أهليته. لكن أداءه في العام 67 شكّل الضربة القاضية، التي لم تقضِ على عبدالحكيم عامر بل على جيش مصر”.

صورة عبد الناصر تستعيد بريقها

على الصعيد الشخصي، كان سلمان سعيداً مع بدء الحرب، لأنه اعتبر أن الساعة حانت أخيراً لكي يتحقق الانتصار على اسرائيل. لكنه شعور لم يستمرّ طويلاً. في الأيام التي تلت 5 حزيران “طغى الشعور بالخيبة، بالمرارة، بانكسار الأحلام ولم يبق إلا شيء واحد: الأمل بشخص عبد الناصر. عبد الناصر الذي كان كبيراً إلى درجة أن هزيمة من هذا النوع لم تسقطه. قائد تاريخي، أسّس لوحدة مع سوريا، واجه في العام 1956، أمّم قناة السويس، له سجّل من الإنجازات في ظلّ خنوع عربي، وقوى استعمارية موجودة في معظم أرجاء الوطن العربي”. برغم ذلك، هزّت النكسة صورته: “صار يقال إنه يخطىء. هذا الكلام لم يكن يقال سابقاً، كانت الأخطاء تنسب لآخرين وليس له. لكن على الرغم من أنه يخطئ، طولب بتصحيح الخطأ. يخطىء لكنه يبقى القائد. تنحى جمال عبدالناصر وقالوا له لا تتنّح، ابقَ ابقَ. أنت المسؤول عن الهزيمة، أنت كفّر عنها. كان عبدالناصر كبيراً، وحتى لو سجّلت عليه خطأ ستحاول أن تجد له تبريراً خصوصاً أنه قال “راجعين على المعركة”. كما أنّ هبّة الشعب المصري ومطالبته بالبقاء عزّزت هذا الأمر، هذا اليقين أنه لا يزال مؤهلاً لأن يربح ولو كانت الخسارة كبيرة. كان الأمل لا يزال معقوداً على مصر، ولم يكن أحد يقدر على التخيّل أن هناك حرباً مع اسرائيل من دون مصر. فبالتالي مصر سوف تردّ على الهزيمة بالتأكيد”.
وبالفعل، في الشهور التي تلت، بدأ الجيش المصري استعداداته لحرب جديدة، وحقق عدداً من الإنجازات من خلال عدد من الضربات التي قام بها، مثل استهداف بارجة اسمها ايلات وغيرها، ما دلّ إلى أنه قادر على المبادرة. بعدها بدأت حرب الاستنزاف وبدأ الجيش المصري يقف على قدميه مجدداً.
في هذه الفترة، كان سلمان قد عاد للعمل في مجلة “الحوادث”، وبعد أقلّ من سنة على الهزيمة، زار القاهرة والتقى بشبّان من الذين استفزّتهم النكسة، فانخرطوا في الجيش من مهندسين وأطباء وجامعيين، إلخ. “انتسبت نوعية جديدة إلى الجيش المصري الذي صار هدفه الأساسي تعويض الهزيمة وتحقيق النصر. روح جديدة دخلت إلى الجيش، روح تشعر بأنها هُزمت من دون وجه حق، وهُزمت هزيمة أكبر مما تستحق”. تكوّن لديه شعور بأن “الجيش المصري المترهّل راح، وصار هناك جيل كامل من الشباب في الجيش. اختلفت أشياء كتيرة، من التدريب بداية، ثم التحصين، وبعدها بدأت حرب الاستنزاف التي امتدت سنتين على الأقل”.
بين عامي 67 و70 استعادت صورة عبد الناصر بريقها، بعدما استطاع إعادة بناء الجيش، وتوجّه أكثر من مرة إلى الجبهة على الرغم من مرضه وتحذيرات الأطباء له، وعادت الانتصارات تتحقق، فلمعت في حينه أسماء عدد من الابطال مثل عبد المنعم رياض الذي ستشهد خلال حرب الاستنزاف، يعني كان هناك بطل، ولحقه أبطال آخرون. كلّ هذا أحيا الأمل بأن هناك ضباطاً متميزين يقومون بإعداد مختلف في انتظار العودة.

الوضع العربي ينقلب

هذه القراءة لما حصل ليست ناتجة فقط عن اعتراف سلمان بأنه لا يستطيع أن يكون محايداً عندما يحكي عن عبد الناصر “لأني كنت معجباً به إعجاباً عظيماً كما معظم أبناء جيلي، كما أن فجيعتي كانت كبيرة في عام 1967، لكنه بسرعة عاد وقال لي لا أزال هنا وأنا قادر. لولا أن وفاته في العام 70 شكّلت نهاية لأشياء كثيرة”.
مع الهزيمة، ثم مع رحيل عبد الناصر، استفاد كلّ القادة العرب الآخرين وبدأت ترتسم خريطة جديدة في المنطقة العربية بشكل كامل. برز صدام حسين في العراق بعد عودة البعثيين إلى الحكم في العام 1968. وفي العام 1969 ظهر معمّر القذافي مع اندلاع الثورة في ليبيا، واستلم حافظ الأسد السلطة في سوريا بعد وفاة عبد الناصر بشهرين. حصلت تطوّرات كبيرة في المنطقة، قد لا تكون كلّها نتيجة الهزيمة بشكل مباشر، لكن الوضع العربي تحرّك وصار مختلفاً عن الذي كان سائداً.
سابقاً كان هناك تسليم مطلق لقيادة عبد الناصر، والذين كانوا ضدّه أو ينتقدونه لم يكونوا يتجرأون على مواجهة الناس. لكنّ مع رحيله، كلّ شيء اختلف. دار التاريخ دورة كاملة.
(الحلقة الرابعة: طلال سلمان…)

مهى زراقط

موقع 180 بوست 18102019

Exit mobile version