طلال سلمان

دولة بلا فلسطين

بينما صارت »الدولة« كابوساً بالنسبة لمعظم »الرعايا« العرب فهي كانت وما تزال حلماً عزيز المنال بالنسبة للفلسطينيين منهم.
وبرغم أن الفلسطينيين يعرفون ويقرأون ويسمعون العجب العجاب عن »الدول الشقيقة«، القريبة منها والبعيدة، والتي تحكمها معادلة غريبة: إذ كلما تزايدت أعدادها تناقصت أهمية »شعوبها« وتضاءل دور »الأهالي« سواء داخل »دولتهم« أو خارجها، وكلما تصاغرت مساحات »الدول« تعاظمت مشكلات »مواطنيها« القلة ازاء »سكانها« الأغراب المجذوبين بالغنى والرفاه وأحلام الجنة الموعودة على الأرض…
.. برغم هذا كله فإن »الدولة« بالنسبة للفلسطيني اكتسبت معنى سامياً إذ يرى فيها »التجسيد« لقضيته، أي لحقه في أرضه، أي لحقه في أن »يكون« »مواطناً« بل »إنساناً« لأن الفصل بينه وبين أرضه »يلغيه« نهائياً أو يجعله كمّاً فائضاً عن طاقة »الدول« العربية الأخرى على الاستيعاب، و»عبوة ناسفة« لمستقبل إسرائيل لا بد من تعطيلها أو نقلها إلى ساحة أخرى لكي تنفجر فيها بعيداً عن دولة أرض الميعاد.
لكن المعادلة الجديدة التي يجري التعاون والتنسيق حولها الآن بين الولايات الأميركية وإسرائيل (وربما بعض الأطراف العربية) تتلخص في أن تكون »الدولة ما« التي ستعطى للفلسطينيين هي البديل من »فلسطين«.
»دولة نعم، ولكن بلا فلسطين«!
وهكذا فإن العرض يكاد يتمثل في أن تعلن السلطة »الدولة«، فيصير لها صاحب فخامة وصاحب دولة لمجلس الوزراء وصاحب دولة آخر لمجلس النواب أما أصحاب المعالي فما أكثرهم، ومع كل لقب جديد تضيع قطعة أخرى من الأرض، فإذا »الدولة« في غزة، بينما يتعاظم العمل في توسيع المستعمرات الاستيطانية لالتهام الضفة الغربية مع إبقاء ممر آمن إلى مدينة الكازينو في أريحا، عبر »جيوب فلسطينية« محاصرة ومعزولة بالمستعمرات وأطواق النار والموت.
في »دولة غزة« يمكن إبقاء الشعار قائماً بأن »عاصمتها القدس الشريف«، ولكن »الانتقال« إلى العاصمة المقدسة سيكون هدفاً نضالياً للأجيال القادمة، ولذا فسيظل بنداً أساسياً على جدول المفاوضات المفتوحة مع الإسرائيليين، ودائماً تحت الرعاية الدولية، الأميركية أساساً التي يمكن أن تلجم »التعاطف« الأوروبي و»هبات« المساندة الروسية المرتبطة بسعر صرف الدولار في موسكو.
تختلف اللغة بين أرييل شارون وشمعون بيريز باختلاف درجة الذكاء أو الخبث أو المخاتلة، لكن المعنى يظل واحداً: اشطبوا فلسطين و»الشعب« وخذوا دولة!
هذه هي اللحظة المثالية، إسرائيلياً، لطرح كلمة »دولة« في التداول: السلطة مستنزفة في قدراتها وفي جماهيريتها، والحركة الشعبية التي لم تغادر الشارع طوال أربعة عشر شهراً منهكة وقد خسرت بالاغتيال أو الاعتقال (المزدوج!!) عدداً كبيراً من قياداتها البارزة، كما أفقدها التخلي العربي الكثير من زخمها وآمالها وقدرتها على المواجهة المفتوحة.
وهي اللحظة المثالية أميركياً للتلفظ بتعبير »دولة لفلسطين« بوصفها »فكرة«، مجردة بلا جسم، بلا حدود ولا سيادة، بلا جيش ولا اقتصاد، بلا اتصال بمحيطها العربي… مخلوق هجين قريب من الكنغارو: جرو صغير، بلا أسنان ولا مخالب ولا قدرة على الحياة خارج جيب »الحاضنة« التي بوسعها أن تخنقه أو تميته جوعاً أو تسقطه على قارعة الطريق فلا يلتفت إليه أحد لأن الكل مشغول عنه، ربما يكون أهله قد نسوه أو تنصلوا منه واعتبروه »أداة في يد عدوهم«!
لقد نجحت الولايات المتحدة الأميركية من خلال التهويل بعلاقة ما لعرب ما ولمسلمين ما بالإرهاب الدولي في وضع كل الدول العربية والإسلامية في قفص الاتهام… وكانت التهمة، في أي حال، أفظع من العقاب!
وهكذا فإن أول شرط للتبرؤ من الإرهاب وتبعاته أن يتنصل العرب من مسؤوليتهم عن الفلسطينيين (وعن كل من يساندهم في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي)، وإلا صُنِّفوا »إرهابيين« وحلفاء لطالبان وأسامة بن لادن! فاليوم وأكثر من أي يوم آخر سقطت الحدود نهائياً فإذا إسرائيل هي أميركا وأميركا هي إسرائيل!
لم تنفع ياسر عرفات كل تصريحات الاستنكار والشجب والإدانة لبن لادن والأفغان جميعاً، ولا تبرعه بالدم لضحايا تفجيرات 11 أيلول، ولا مسارعته إلى اعتقال كل من اتهمته إسرائيل بالإخلال بأمنها، ولا تنازلاته السياسية التي كادت تفصله عن جماهير شعبه الغاضبة والمحبطة والمقتولة والمحاصرة بالموت وإنكار الهوية،
لم تنفعه لا في »انتزاع« موعد للقاء الرئيس الأميركي العائد من معارك المجد مكللاً بالغار، ولا حتى في الحصول على نعمة المصافحة أو حتى تبادل النظر والتحية بهزة من الرأس في عشاء الأمم المتحدة، وقد كانا على طاولتين متجاورتين.. لا تفصل بينهما إلا إسرائيل!
إنه أسوأ توقيت لإهراق دم مطلب عزيز كدولة للفلسطينيين فوق أرضهم.
إن »الدولة« مهمة مقدسة وأثقل بكثير من أن تُشاد على أكتاف هذه السلطة الهزيلة والمفلسة والمهزوزة علاقاتها مع قاعدتها الشعبية، وفي ظل هذه الظروف الدولية غير المؤاتية والظروف العربية المحبطة!
وصحيح مع الأسف ما يقوله الإسرائيليون من أن الضغط الدولي على إسرائيل قد انخفض إلى الصفر،
ومؤسف أكثر أن التأييد العربي لفلسطين، القضية والشعب والانتفاضة والدولة، قد تناقص بالخوف كما بالرغبة في استنقاذ الرأس ولو على حساب كل القضايا، فبات في حده الأدنى، وأعجز من أن يسند »دولة«… فالدول المرتعدة الآن رعباً من العقاب الأميركي في شاغل عن أن تتبنى دولة تولد إن وُلدت في قلب العجز والإفلاس، السياسي والعسكري والمادي..
وكائناً ما كان الكلام الذي سوف يطلقه وزير الخارجية الأميركي بعد يومين فإنه لن يبدل في الوقائع الأساسية: لا الأميركية ولا الدولية ولا العربية ولا الإسرائيلية بطبيعة الحال.
وإذا كان الخيار بين شعب يناضل في أرض محتلة، وسط أصعب الظروف وأقساها، وبين »دولة« من الوهم تلغي الشعب والأرض والقضية، فلا مجال للتردد، بل لا مجال للخيار، ولا بد من الاستمرار في المواجهة المفتوحة مع الموت على مدار الساعة لتأكيد الحضور اليوم وغداً وفي كل الأزمنة!
… وليس العرب الآخرون في »دولهم« بأسعد حالاً، أو أكثر اطمئناناً إلى مستقبلهم، في أي حال!

Exit mobile version