جبران باسيل ليس شواذاً على القاعدة. وجوه الشبه بينه وبين معارضيه، كثيرة.
طائفيته المشَّرعة، لا تختلف عن طائفية زعماء التيارات والاحزاب والجماعات الطائفية، الا بالنبرة العالية… طائفيته المغالية في الوضوح تشبه الطوائفيات كلها، حتى تلك المكتومة والخجولة… أكثر ما أفرح زعماء الطوائف، نظريته الفذة: الأقوى في طائفته هو الممثل الشرعي لها. اطمأن وليد جنبلاط إلى هذه النظرية. صار يجاهر بأنه الأقوى. سمير جعجع فرك يديه. هو الأقوى بعد باسيل. الموارنة الآخرون، هباء لا وزن لهم. سعد الحريري، هو الأقوى في طائفته. السنة حزبه الدائم ورأسماله الذي يعوِّض عليه خسارة رأسماله المالي. الثنائي الشيعي ازداد اطمئناناً. هما القوتان القويتان شيعياً… فلماذا هذا الاستهجان من خطاب جبران القوي؟
المشكلة، أن الاقوياء هؤلاء، لا يصنعن دولة، ولا ينتظم نظام ولا ينتج عنهم سلطة قوية… المشكلة أن قوتهم هذه نتيجة ضعف الدولة وبؤس النظام وتحزب “الجماهير الغفورة” لزعمائها الأقوياء… يتبارزون ضد لبنان واللبنانيين… ترجمة الأقوى في طائفته تترجم بالحصص المميزة في السلطة والادارة والصفقات. لا تجّير قوة الزعماء للوطن. هي بطبيعتها ضد الوطن. هناك دائماً من هو فوق الوطن. الطائفة اولاً، والوطن “ذنب الخيل”.
نظرية الرئيس القوي، غير قابلة للتصديق. هو قوي في طائفته وفي تياره، ويحتاج ليكون قوياً، أكثرية من طائفته. الطوائف الاخرى لا تصرف من رصيدها الا لصالح زعيمها الطائفي. العهد فاقد للأهلية الطائفية الجامعة. الطائفية تفِّرق ولا تجمع.
فلماذا كل هذا الغضب على جبران باسيل؟ “انه مثلكم… ومثلكم الأعلى… في تبني الطائفية بحذافيرها، او الطائفية النقية التي تشبه العنصرية القاتلة”.
الرئيس القوي، قوي فقط في جماعته وعلى جماعته. انه ماروني اولاً وأخيراً وبين بين. وكل ما عدا ذلك فولكلور تافه. كأن يتبنى الرئيس وزراء من غير طائفته. وزراء بلا وزن ولا قوة. ديكور فقط. الوطن اساس وليس ديكوراً. كفى الكلام على ذلك إلى هنا.
ما يقوله جبران باسيل بصوت مرتفع وبلهجة استفزازية، يمارسه الآخرون سراً، ومن تحت لتحت. فضيلة جبران، انه اخرج الفضيحة إلى الملأ السياسي. لا سياسة في لبنان خارج الحلبة الطائفية. كونوا طائفيين اقحاحاً، ليصير لبنان عن جد، ملجأ الطوائف غير المتحدة، الا بإرادة خارجية، او بمحاصصة محترمة وشهية ودائمة.
جبران باسيل، يقول، ما لا بجرؤ الآخرون عن الافصاح عنه.
فله اذاً، فضيلة الوضوح، ولو كان يصل احياناً إلى درجة السفور.
ثم لا ننسى، أن “حروب لبنان الاخوية”، في الزمن اللبناني السابق، قد حفلت بقاموس من الطوائفيات القاتلة. يومها، كان الطائفي القوي بسلاحه وأحلافه، يفتك ويوغل في الدم… الصوت المرتفع طائفياً اليوم، ينهش من اللحم السياسي، لأن زمن العنف انتقل إلى الجيران، واحتكروه، ودعوا اللبنانيين إلى خنادق القتال، فمنهم من لبى، هذا وذاك، بطريقته واسلوبه، اما بذخيرة خطابه او بالذخيرة الحية. لبنان، كان ملعباً في حروبه، ثم صار لاعباً في حروب الآخرين. لبنان غير الموجود، نأى بنفسه، ولبنان المتواجد في طوائفه، لم.
ثم يعيِّر جبران باسيل بوراثة عمه الرئيس، وهو ما زال حيا يرزق في بعبدا. من مِنَ القادة الطائفيين، في أي درجة من القوة، ليس وارثاً او اميراً من امراء الحرب؟ سعد الحريري، وليد جنبلاط، سليمان فرنجية الحفيد، تيمور جنبلاط، اما امراء الحرب من كل الطوائف فهم ورثة اتفاق الطائف الذي نقل امرة السلاح إلى امرة السياسة.
يلام جبران باسيل على خطابه العنصري. هذا ليس جديداً. الخطاب الطائفي في لبنان هو نبع العنصرية. هو في المرتبة العليا من العنصرية. أنت طائفي، فاعرف، إنك عنصري. التمييز بين “ابناء الوطن” على اساس طائفي او مذهبي، ادى إلى مجازر في الحروب اللبنانية. اما ديموغرافيا، فلبنان ماض إلى كانتونات طائفية ومذهبية صافية. هناك هجرة طائفية، وأحيانا هناك غزو هادئ لمناطق كانت يوماً ما، مختلطة.
ودِّعوا لبنان المتعدد ديموغرافيا. المناطق الانتخابية ليست صافية بعد. ويوم تتم التصفية، لا يعود جبران باسيل بحاجة إلى الصوت التفضيلي. فسينتخب المسيحي مسيحياً والسني سنيا والشيعي شيعياً والدرزي درزياً.
مستقبل للبنان، أن كان له مستقبل، سيكون ترجمة دقيقة ـ لنظرية “الأقوى في طائفته”.
ليست لهجة باسيل مشكلة. المشكلة في المضمون المشترك مما يطرحه بصوت مرتفع، وفي التأييد القوي، بالسر، لهذه النظرية. ومن المستحيل أن تؤدي إلى “لبنان القوي”، او إلى “الجمهورية القوية”، أو إلى مهزلة هاربة الفساد. طويلة عليهم.
المشكلة ليست في جبران باسيل ولهجته. المشكلة انه يعبر باستفزاز عما تطمح اليه كل طائفة وكل زعامة.
لذا: وداعاً “لبنان القوي”.
ولذا ايضاً: مأساة لبنان في قوة زعاماته الطائفية.
ولذا كذلك: ليس عندنا جبران واحد… عندنا من يدمِّر وطنا وشعباً وارضاً. من مذاهبهم تعرفونهم.