طلال سلمان

دردشة

“أستاذنا العزيز. غاضبة أنا؟ نعم أنا غاضبة وخائفة. أراهم فى الدول العظمى وقد استعدّوا فيما يبدو لإعلان الهزيمة فى حربهم ضد الفيروس. أراهم وفى نية جماعات في هذه الدول إشعال حروب أهلية أو تفجير تقلبات اجتماعية عنيفة. أرى في الأفق حروباً صغيرة بين الجيران في أوروبا وآسيا وحروباً كبيرة في أفريقيا. أتفادى قدر الإمكان أن تنعكس هذه الرؤى على تصرفاتي فى بيتي وعلاقاتي مع الأقرباء والأصدقاء. أدير معركتي الشخصية مع الفيروس وكأن النصر وراء الباب. أحرص على ألا يخرج أولادي إلى الشارع إلّا وقد غطّت أنصاف وجوههم الكمامات المضادة للفيروس. أفتح باب الشقة صباح كل يوم لأتأكد بنفسي من أن السيدة التي تساعدني في تنظيف البيت تضع الكمّامة. أجعلها تُقسم أنها تضعها قبل أن تخرج من بيتها ولا تفارقها حتى تصل إلى شقتي، وهي مسافة تركب لها ثلاث وسائل مختلفة من المواصلات. استقبلها بعين رقيب منضبط. تدخل من باب الشقة متوجهة بدون تردد أو تفكير نحو باب الحمام. تقضي في الحمام ما تشاء من وقت بشرط أنها حين تخرج منه تكون قد تخلصت من ملابس خرجت بها من بيتها ووضعت كمّامة جديدة تسحبها من علبة كمامات غير مستعملة أتأكد دائما من احتوائها على عدد وفير وكاف. أحرص في الوقت نفسه على أن أكون أنا نفسي للآخرين نموذجاً. لا ألتقي ضيفاً فى منزلنا أو غريباً في اجتماع أو زميلاً في العمل إلّا وكمّامة الفيروس على وجهي. ولكني إنسان ولا كمال للإنسان كما تعرف وأعرف. أنا كممثل أكيد لصنف البشر أنحاز لأفراد ولأشياء. استثني بعض الناس عند تطبيق قواعد وتقاليد، وحضرتك واثق من أنك واحد من هذا البعض. أرى في عينيك فضولاً. عيناك تسألان عن دوافع وأسباب الإنحياز، تسألان عن مبررات هذا الإستثناء. لا أخفيك أنني توقّعت السؤال قرب نهاية كل لقاء بيننا وتهربت. اليوم أجيبك”.

***

“أخاف من أنفاسي ولمساتي وأحياناً من نظراتي، أخاف منها على ابني وعلى زوجي وعلى أبي وأمي وعلى إيناس صديقة عمري وعليك. أخاف عليكم منها ومن الفيروس الخبيث. ورغم خوفي لا أضع على وجهي كمّامة في وجود أي منكم. معكم أعرف أن لا الشر ولا حتى الظن يمكن أن يتنقّل حراً بيننا ذهاباً وإياباً. قيل هي الثقة المتبادلة المتخيلة حيناً والمبالغ فيها حيناً آخر. قيل أيضاً أنني بكم، مجتمعين أو منفردين، تشجعت فقبلت التحدي. بدونكم ما كنت تصديت، من أجلكم استجبت مثلاً لدعوات التطعيم”.

***

“جلست أنا وخمسة أفراد ننتظر من ينادي على أرقام وزّعوها علينا عند وصولنا. كنا في صالة انتظار تتسع لخمسين. معنا فى الصالة رجال أمن. لم يفاجئني وجودهم وعلى كل حال لم يعد وجودهم في أي مكان وفي كل مكان يمثل مفاجأة. اعترف أنني على عكس المعتاد ارتحت لهذا الوجود المكثف وبخاصة بعد أن تبينت أنهم يعملون في هدوء وبتواضع ويهتمون بطمأنة الزوار وإرشادهم إلى مواقع الانتظار والكشف والتلقيح. تمنيت لو قام أحدنا بتصوير هؤلاء الرجال المرتدين بزات عمل زرقاء، تسمى «أوفرول»، وقد كتب على ظهورهم باللغة الأجنبية وبالخط العريض ما يحدد هويتهم كرجال أمن. ما أحلى اللحظة التي يتعلم فيها المواطن معنى جديداً لكلمة أمن. تعلّمنا هذا الصباح قبل أن ندعى للمثول أمام اللجنة الطبية، تعلّمنا أن الأمن إرشاد وتهدئة خواطر وابتسامة. عدت إلى بيتي مزودة ببطاقة متجددة تسمح بجولة أخرى من جولات عديدة نخوضها ضد أخطر ما واجه عائلتي ودوائر معارفي ومصادر سعادتي من كوارث وأسباب للغضب والنكد”.

***

“أستاذنا العزيز.. أما زلت معي؟ أعدك لن أطيل فهذه الفقرة ستكون الأخيرة فيما قصدت أن يكون مجرد دردشة. اتصلت زميلتي قرب الفجر. قالت بصوت كالهمس.. أعيش يا عزيزتي أوقاتاً صعبة. أنه الفيروس ولاشك. سئمت منظر الزملاء والزميلات فى العمل وقد اختفت وجوههم تحت الأقنعة. اشتقت إلى وجوه ساخرة ووجوه سعيدة ووجوه مهللة. آمنت يا صديقتي بحكمة أنت مصدرها، آمنت بأن في الاستثناء عن القاعدة تحرراً من قهر وقمع وتخلصاً من أزمات ملل وضيق تنفس وتوترات عصبية. نشأت أكثريتنا، نحن معشر النساء، على مبادئ التنميط، فرضوا علينا قاعدة كلنا رجل واحد. تمرد منا على هذه النشأة من تمرد. بعض من تمردوا اختار الإستثناء قاعدة، آخرون راحوا يعالجون بالإستثناء أزمة. البعض حاول بالإستثناء «فك عقدة» قبل أن تستحكم وبين هؤلاء من عاد بعد فك عقدته إلى السيرة النمطية”…

***

عزيزتي، نعم أطلت حتى تجاوزت الدردشة هويتها المقررة. أثني على شطارتك فقد جرى استدراجي لأشاركك اللعب على أرضك، وأعترف بأنك بالفعل كنت كعهدي بك صاحبة موهبة فى هذا المجال. فقط أريد الإحتجاج على عبارة أستاذنا العزيز التى بدأت بها الدردشة. عزيز ربما وأتمنى أن يدوم هذا الوصف فأنا بالفعل استحقه، ولكني لست أستاذاً لأحد.

ينشر بالتزامن مع موقع “الشروق

Exit mobile version