طلال سلمان

دبلوماسية سيرك متجول

حضرت دروسا في أصول الدبلوماسية وبعض فنونها على أيدي أساتذة ومؤرخين محترمين في معاهد علمية مرموقة. ثم اخترتها مهنة، بل فضلتها على التدريس إحدى أشرف المهن في ذلك الوقت. صحيح أنني، وزملاء عديدين، لم نجد في انتظارنا لسوء الحظ في وزارة الخارجية عددا كافيا من المخضرمين ينقل لنا تجاربه في العمل الدبلوماسي، صحيح أيضا أن البعض منا اكتشف بعد سنوات قليلة أنه ألقى بنفسه في أتون مهنة ظاهرها ناعم وجوفها بركاني. خضنا تجارب مثمرة وممتعة وتقلبنا على أوجاع تجارب مؤلمة ومؤذية، تلقينا من خلالها أهم الدروس في الدبلوماسية. ولعلم من لا يعلمون أتمنى أن يعلموا أن الساحات الدولية والإقليمية والمحلية تشهد لزملاء عديدين في الدبلوماسية المصرية أنهم تجاوزوا عقبات صعبة حتى صاروا على مستوى أكفأ الأقران في عالم الدبلوماسية، وأكثر من واحد فيهم أضاف إلى المهنة وترك في وثائق المؤسسات الدولية العريقة ما يحسب له ولوطنه.


ساعدتهم ظروف بعينها. كان العالم ينتقل من مرحلة كادت فيها الفاشية في طبعاتها الثلاث: الألمانية والإيطالية واليابانية، تطغى في العالم بإمبراطوريات أشد قسوة ووحشية من إمبراطوريات الغرب التقليدية، وهذه كانت على وشك أن تنحسر تحت ضغط ثورات شعوب المستعمرات. كان هذا النفر من الشباب يجمع في منظومة فكره إعجابا واقتناعا بعصر جديد في الدبلوماسية أهم مكوناته على الإطلاق الالتزام باحترام القانون الدولي والدفاع عنه، وفي صدارة هذه المكونات تألقت المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة وأجهزتها ومبادئها. أضفنا من عندنا الاقتناع بفكرة الحياد الإيجابي وبخاصة بعد أن طورها زعماء المرحلة من قادة حركة تحرر الشعوب لتستحق عنوان عدم الانحياز. أقول ساعدتهم ظروف لأنني، وبكل الصراحة الممكنة، أشفق على شباب دبلوماسية هذه الأيام، أشفق عليهم التلقين اليومي من الإعلام الخارجي بأخلاق وسلوكيات بعيدة كل البعد عن أخلاق وسلوكيات الدبلوماسية كما نشأ عليها وعهدها ونقلها إلى أجيال أخرى مؤرخون وقادة وسياسيون على مستوى راق من الخبرة والثقافة. أضف إلى هؤلاء مفكرين وضعوا الأساس القوي لنظام دولي عتيد ليحل محل ما خربته حروب الفاشية، أشفق عليهم مشاركتهم في مؤتمرات دولية تدفعهم إلى تبني أفكار وأخلاق وسلوكيات هي الأقرب شكلا ومضمونا إلى قواعد العمل في منظومة سيرك متجول.


لم يكن بين عاداتي مشاهدة تسجيل لحدث أو حفل أكثر من مرة، حتى بدأت في الآونة الأخيرة أشاهد مؤتمرات قمة دولية يحضرها كبار القادة في العالم الغربي وبخاصة تلك التي يشارك فيها الرئيس دونالد ترامب. أخذتها مأخذ الجد منذ كنت تلميذ سياسة. كان لسمعة مؤتمرات العاصمة النمساوية في القرن التاسع عشر مكانة خاصة في نفوسنا كشبان دبلوماسية. تعلمنا منذ شبابنا أن الأعراف الدولية تنشأ أو تترسخ في مثل هذه المؤتمرات واللقاءات التي يحضرها صناع السياسة والقرار في مختلف الدول. هناك يتبادل القادة معلوماتهم عن القوة الحقيقية لبلادهم في الساحة الدولية، هناك، ومن المقارنات الصامتة حينا والصاخبة في أحيان أخرى يقرر القادة مواقع دولهم على خريطة القيادة الدولية. في فرساي مثلا عرف تلاميذ السياسة في أعقاب الحرب العالمية الأولى ولأول مرة موقع الولايات المتحدة في توازنات القوة قبل أن يثبت لهم أن في نية واشنطن العودة إلى الانعزال عن عالم الصراعات الأوروبية. كانت واشنطن قد تأكدت من مداولات قمة فرساي أن صراعات أوروبا لن تهدأ. بعد فرساي بأقل من عقدين عادت واشنطن لتقرر أن انعزالها ربما شجع اليابانيين على تهديد مصالحها في المحيط الهادي والنازيين والروس السوفييت على تهديد الأمن والسلام في المحيط الأطلسي. كان كافيا للمتابع والمهتم أن يدقق في القمم التي عقدها الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية ليعرف أن أمريكا تخطط لنظام دولي جديد.

هذا النظام الدولي الجديد سوف يعتمد الليبرالية السياسية فلسفة وعقيدة ومؤسسات، وسوف يختار حرية التجارة وممارسات أخرى على طريق عولمة الاقتصاد والنقل والاتصالات وتصفية الاستعمار التقليدي. أسفر العمل الجاد والتصرفات الوقورة والعقائد الراسخة التي اتسمت بها هذه القمم المصغرة ثم قمة سان فرانسسكو عن نظام دولي مبتكر. هذا النظام نراه هذه الأيام، ورأيناه في اليابان هذا الأسبوع بأقصى درجات الوضوح الممكن، رأيناه يتفسخ أمام أعيننا ولم يمر على إطلاقه سوي سبعين عاما. كانت أهم ركائزه، وأكرر، عقيدته الليبرالية ومبادئ حرية التجارة ومؤسسات العمل الدولي التكاملي والأمني ونظام الأحلاف شبه الثابتة. وللحق يجب أن نعترف أن التفسخ بدأ منذ سنوات ولم يبلغ ما بلغه إلا في عديد القمم الدولية التي عقدت خلال العامين الأخيرين وآخرها أوساكا.


القمم السابقة شيء وقمة العشرين في أوساكا التي عقدت خلال الأسبوع الماضي شيء آخر. صحيح أن تفكيك أواصر الحلف الأطلسي والمعسكر الغربي بصفة عامة بدأ قبل أول قمة يحضرها الرئيس ترامب، وصحيح أن موقفه في تلك القمم من قواعد ومبادئ حقوقية وقانونية مثل قاعدة احترام الحكومات لحقوق مواطنيها كان واضحا وموثقا بسياسات وقرارت أمريكية لا تقبل الشك، إلا أنها جميعها وغيرها لا يرقى إلى المستوى الذي صاغه وأصر عليه الرئيس فلاديمير بوتين من خلال تصريحه الأشهر عن أن الليبرالية مسألة تجاوزت أمد صلاحيتها. لم يحاول الرئيس الروسي الإفاضة في شرح البديل الذي حل محل الليبرالية أو سوف يحل محلها خاصة وأن بوتين كان يتكلم عنه بلغة الإشادة ويبرزه كبديل نجح في روسيا. لم يقل أنه نجح في الصين وفي دول أخرى عديدة ويجد إقبالا عليه واستعدادا للأخذ به مرة أخرى في أمريكا الجنوبية ودول في شرق أوروبا وغالبية دول الشرق الأوسط. لم يشرح الرئيس بوتين جوانب ومكونات البديل رغم حماسته الشديدة له وترويجه لمميزاته، ومع ذلك يبقى مثيرا لنا، أو لي على الأقل، أن الرئيس بوتين لم يجد لهذا البديل الواسع الانتشار اسما مناسبا غير مشتق من أسماء العائلة الليبرالية التي أعلن بنفسه سقوطها النهائي.


ما زال الرئيس ترامب يفاجئنا. يفاجئنا يوميا بهذا الاختراع المسمى بالتغريدات. لا شك أنه استطاع باستخدامه أن ينفذ كل صباح إلى مراكز صنع القرار في كل ركن من العالم بدون استئذان وبتأثير مباشر. يفاجئنا أيضا بتمثيلياته التي يكتب سنياريوهاتها بنفسه كما كان يكتب ويخرج ويمثل تمثيليات تلفزيون الواقع. تراه منبهرا وهو يعلن بدون سابق إنذار نقل سفارته إلى القدس. تراه متشفيا من باراك أوباما وهو يعلن خروجه على الاتفاق النووي الذي عقده قادة المجتمع الدولي مع إيران. رأيناه مسليا كمهرجي السيرك وهو يعرض على الرئيس كيم عقد لقاء على الحدود الفاصلة بين الكوريتين. ثم رأيناه يبدع في التسلية وهو يتراقص أمام الكاميرات في صحبة رئيس كوريا الشمالية، الذي بدا على الدوام شابا وقورا على عكس ما بدا عليه الرئيس الأمريكي، شيخا متصابيا وثقيل الظل. هنا يتراقص وهناك في الشرق الأوسط يهدد إيران بمحوها من على الخريطة لسبب معلن هو نفس سبب وجوده في كوريا الشمالية، اتفاق نووي جديد. كان في تعامله مع إيران كمهرج يلعب بعصى يضع أطرافها المشتعلة بالنار في فمه لتنطفئ ثم يضع أخرى مطفأة فتشتعل. ليس هكذا يتعامل الحكماء مع خصومهم في منطقة تسبح في بحيرة نفط جاهز للاشتعال. رأيناه، وأقصد ترامب، في بريطانيا وخارجها يرشح ويدعم برونسون رئيسا للوزراء ورأيناه يسخر مرة أخرى من المستشارة أنجيلا ميركل وسمعناه مستمرا في حربه الإعلامية والسياسية والتجارية على حلفاء بلاده في الاتحاد الأوروبي.


كثيرة هي أعراض الفوضي في دبلوماسية القمم الدولية المعاصرة. وكثيرة وعصية على الفهم تصرفات قادة ورجال دولة في المحافل الدولية. أما الأصعب على الفهم، من وجهة نظري، فكانت التفاتة الرئيس الأمريكي ناحية الرئيس بوتين ليرجوه في حركة مسرحية أن يتوقف عن التدخل في انتخابات بلاده. بدت الالتفاته والطلب المرافق لها للمشاهدين كافة إشارة ساخرة وغبية لعلاقة غامضة بين رئيسين يربط بين بلديهما صراعات وحصار اقتصادي وعقوبات وأذى متبادل ولا شئ بالمرة يشي بعلاقات ودية. بدت أيضا استهانة من رئيس دولة بمشرعيها وقضاتها المنشغلين بمستقبل الديمقراطية في بلادهم، ليهم شكوك موثقة عن تدخل في الانتخابات التي جاءت بترامب رئيسا ومخاوف من أن تتكرر بعد عام من الآن في إعادة انتخابه.


تاريخ الدبلوماسية في العصر الحديث حافل بالانعطافات والنوادر وعلامات الانحدار، ولكن لا مرحلة في هذا التاريخ تنافس في التردي المرحلة الراهنة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version