طلال سلمان

حُلُّوا عن رجال الدين في لبنان!

المشهد اللبناني ينضح بالكذب والتكاذب. يشترك “الشركاء” في تظهير الصورة الحقيقية، للنظام والكيان. بلغت السفاهة، أن بات رجال الدين، يسفرون عن إنتماءاتهم السياسية، المعروفة أصلاً، ويتقدمون الصفوف الأولى، في خوض المعارك: الدستورية، الحقوقية، السيادية، الإقتصادية، المالية (وتحديداً المالية)، القضائية، ال… إلى آخر ما يتفوه به الإعلام، بألسنة الستة الكبار، المؤتمنين على خراب لبنان الآن، وتخريب لبنان المستقبل.

تهافت رجال الدين السياسيين متداول. كل طائفة لها مرجعيتها الدينية، المذهبية، التي تنطق كفراً، بإملاء واضح. فلا شذوذ على القاعدة أبداً. المرجعيات المذهبية كلها، مدينة، “لنبي” الطائفة السياسية. زعماؤنا، أنبياء أذكياء، والأتباع مقيّدون بسلاسل، لرنينها، سحر الإقناع، لجماهير موهوبة بالإمتثال والطاعة.

المشهد الفضائحي، لم يستكمل عناصره بعد. هناك هجوم على محاولة غادة عون، في ملاحقتها لملف تهريب الأموال. كاد الهيكل السياسي أن يتزلزل. استنفرت العصبيات. سقط الحياء. قيلت الأشياء بوضوح: حاكموا غادة عون وعاقبوها. إنها تجرأت على أقوى رجل في لبنان، الحاكم للمصرف المركزي، صاحب القلعة المحصّنة والمغلقة، والقابض على كل شاردة وواردة مالية، أكانت لأهل السياسة وعائلات المال أم لطوائف لبنان.

هكذا، وبكل جرأة وقحة. من دون وخز ضمير أبداً. عادة، يُدان الصامت على الجرم. يسمي شيطاناً أخرس. إما أن تبلغ المسألة تأليف جبهة من رجال الدين، وزعماء سياسيين، وقضاة مدنيين، من كل الطوائف، فهذا ما لم يحصل أبداً، لأي زعيم سياسي في لبنان. جرت العادة أن توالي الطوائف والمذاهب زعماءها فقط، وأحيانا مع حلفائهم. هذه المرة، حظي الحاكم الفعلي للبنان المال والسياسة، بشبه إجماع، إضافة إلى احتضان أميركي علني وواضح. إنه في الأحضان. عدوا للمئة، قبل أن تصلوا إلى أي تحقيق. لرياض سلامة حصانة، وفي طليعتهم، رجال الدين.

ليس هذا الوارد أعلاه، هو موضوعنا، مع أننا أسرفنا في القول.

الموضوع: وظيفة المرجعيات الدينية في لبنان. هذا يا ناس، ليس جديداً. إنه من عمر تبني الطائفية، التي رسمت خطواتها الأولى، عبقرية فرنسا وبريطانيا، منذ زمن القائمقاميتين.

لبنان، ولد طائفياً، قبل أن يصير دولة. إرهاصاته بدأت بعد أحداث العنف الأهلي، بين النصارى والدروز. الحل الذي اقترح: نظام القائمقاميتين، مع توزع “عادل” للطوائف. فشل النظام بعد مذابح. تألفت لجنة دولية برعاية الباب العالي، مؤلفة من فرنسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا. الثقل لأثنين: فرنسا منحازة للموارنة وبريطانيا للدروز. اقترحوا إنشاء متصرفية، المتصرف فيها مسيحي عثماني، ومجلس الإدارة نسخ نظام القائمقاميتين وساوى بين الطوائف: لكل طائفة عضوان فقط. موارنة وأورثوذكس وكاثوليك ودروز وسنة وشيعة.. المندوب الفرنسي لم يرض بهذه القسمة. يريد حصة أكبر للموارنة، وبعد ثلاث سنوات ونزولاً عند إلحاح المندوب الفرنسي، أصبح المجلس مؤلفاً من أربعة أعضاء موارنة وثلاثة من الدروز وإثنين للأرثوذكس وعضو لكل من الكاثوليك والسنة والشيعة.

النظام الطائفي سابق على الكيان. النظام قسَّم البلاد على النفوس وجعل النصوص تشبهها. القضاء والإدارة والشؤون المالية والأمنية والوظائف العامة موزعة حصصاً بين المذاهب. توحّد الجبل جغرافياً وتفتت شعبياً. فـ “شكراً فرنسا”. مؤسسات الحكم رهينة الطوائف والمذاهب والصراعات الدينية. علمانية فرنسا تخصها وحدها. والأهم، أن كل طائفة احتمت بدولة. فلبنان، منذ ما قبل أن يوجد، مرتهن لقوى خارجية. علماً، أن الحل، لم يستفتَ فيه اللبنانيون أبداً. اعتمدوا على الزعامات الإقطاعية والمرجعيات المذهبية.

هذا هو لبنانكم أيها اللبنانيون… أنتم إعتلال طائفي، لوطن لا يمكن أن يكون معافى. الطائفية، علّة وجود لبنان.

قليل من التفكير: لماذا نحن على ما نحن عليه؟ ولماذا، بعد مئة عام من نشأة الكيان، نعود إلى طلب المعونة من الخارج؟ علماً، أن الخارج مقيم في لبنان وله تأثيره. أكثر بما لا يقاس من كل التيارات السياسية المذهبية. لا أحد أقوى من فرنسا يومذاك. احتلته وانتدبت عليه واستولدته كما أرادت، بالإتفاق مع المرجعية المارونية. من أقوى من أميركا اليوم؟ لا أحد؟ من أقوى من عبد الناصر سابقاً؟؟ لا أحد. من كان أقوى من حافظ الأسد حديثاً؟ لا أحد. من أقوى من إيران راهناً؟ لا أحد. من هو اللبناني القوي؟ ابحثوا عنه جيداً. لن تجدوه، برغم “فائض القوّة لدى البعض”.

سنشهد قريباً نزول الدين إلى الساحة. كلّهم بحاجة إلى الدين. الدين يفبرك أتباعاً في السياسة. الدين هو حاجة سياسية لكل الطوائف. هنا، لا بد من سؤال: دلّونا على من يخدم الدين الجميل. لا أحد. لكنكم تعرفون جيداً كيف يستخدم الدين في السياسة وتشبيحاتها، نهباً وسلباً وغلبة، ودفاعاً منيعاً عن الظلم والسرقة المكشوفة، بلا شعور بالذنب أو العيب.

السياسيون في لبنان، ذوو الثقل الطائفي، وضعوا أيديهم على الدين. هم ليسوا بحاجة إلى نصوص. يهمهم فقط أن ينقاد الناس بالغريزة التي تولد معه، عندما يسقط من رحم أمه.

أي إنسان عادي وعاقل، لا بد أن يقول في هذا المقام “حرام. والله حرام. يلزم إنقاذ الدين من أتباعه”. الدين في لبنان، استقل عن أصله الروحي. استطاب الإقامة في الأبراج العالية، والمجالس الملية. لا تبحثوا عن الروح. لقد هُجِّرت أو هاجرت.

حقيقة، الإنسان وجد قبل الدين بأزمنة. والأديان لازمت الإنسان في ما بعد. هناك ديانات انقرضت، وديانات تبدّلت، وديانات انقسمت، وديانات تمذهبت، وتسيست وتحاربت. التاريخ الديني لا يشبه أصله ونصه ومنبعه. نصوص الدين مستقلة عن واقعه. عجيب ما ارتكبه رجال الدين، في كل الديانات. كان الدين وسيلة لا غير. فقد عصمته عندما قادته السياسة. وهذا ليس حكراً على دين. فالأديان والسياسة سواسية، أكانت توحيدية، أو من عصور ما قبل التوحيد.

لا دين في لبنان إلا بعد أن يتبرأ من السياسة، وهذا مستحيل. لبنان لا يحيا إلا في حضن الطوائف، ولا يشقى ويتفسَّخ إلا في أحضانها. أي مواجهة تدفع المتدينين إلى الخصام حتى النفس الأخير. لبنان نموذجاً. العراق أيضاً. سوريا كذلك. السودان أيضاً وأيضاً، وهلم جراً.

للدين قيمة كبرى عندما ينحاز إلى ذاته وقيمه وإلى الإنسان. وهو في الأصل كذلك. للطائفية، رتبة العصابات. تجسيد للعنصرية. الطائفية تُبعد المؤمنين عن الدين وأولوياته الروحية والسامية. الدين يبني في الأصل على ركائز روحية ومادية. أمر لا يُستهان به. بعد ولادته، يدربونه على الشقاوة والتسلّط والنقيض. يصير الدين عندها، ضد الحضارة والتقدم. يصير إنتهازياً. ينقلب ذات اليمين وذات اليسار. وهو مع وضد في الوقت نفسه، ويتآخى مع كل أشكال الظلم والفساد والطغيان. وعندما يلجأ إلى العنف، فالذبح على الهوية عرفناه في لبنان، ثم عرفناه مع الطالبان ومع “القاعدة” ومع “داعش”، ومن قبل عرفناه مع البرابرة الصليبيين. إنه، عندما يصادر، يصير ركيزة أساسية لتبرير الإرهاب وتحشيده.

المسيحيّة، في بداياتها، كانت ضحية الإضطهادات. نمت على دماء الشهداء وتراثهم الروحي، ومحبة ليسوع المسيح. بعد ذلك، إقرأوا ماذا حدث. إستقووا فأرهبوا. “ألا إرفعوا راية الإيمان، فهذا هو الدور الذي أوكلته لكم الألوهة… أن المسيح بجزيل عطفه قد أعدّ لشعبة على يدكم، نعمة القضاء على الأوثان… صادروا كل ما ترونه. ضموه إلى ملكيتكم فتتعاظم أرباحكم… حرّضوا الأمراء على معاقبة الأشخاص بشدّة وسلّموهم للموت، حتى ولو كان أخاك أو إبنك أو إمرأتك التي تنام في حضنها.

هل هناك أبشع من ذلك؟

بلى! هناك مرجعيات دينية نفطية. شاهدوا محطات التلفزة العربية… إذاً لا بد من تحرير الدين من السياسة ومن الدولة ومن النفط، وإلا نقع في محظور المصالح. الشيخ محمد شلتوت في مصر، وهو الإمام الأكبر في الأزهر، أفتى بأن الصلح مع إسرائيل حرام. جيد جداً. في السبعينات أفتى الشيخان عبد الحليم محمود ومحمد متولي الشعراوي بأن الصلح مع إسرائيل حلال… أين الدين هنا؟ دين هذا أم دين ذاك؟ طبعاً إنه ليس دين الكتاب أبداً. لذلك، توغّلت السياسة وأوغلت في الثقافة. حتى لبنان أقدم على طرد صادق جلال العظم، وعبد الله القصيمي، بناء على ضغط من المرجعيات المذهبية. في مصر، تجرأوا على طه حسين، وعلي عبد الرازق وعلي ابن عربي (صاحب الفتوحات المكية) وعلى عبد الرحمن الشرقاوي وعلى “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ وعلى لويس عوض… ولا تزال مصادرة الكتاب حتى اللحظة.

لذا لا بد من تحرير الدين من القابضين عليه. هؤلاء أهل سياسة لا أهل دين.

وإذا عدنا إلى عندنا في لبنان، فلا بد من توجيه إشارات قاسية لكل رجل دين، لا يقف مع المظلومين من الشعب اللبناني. وعنوان وقوفهم التخلي عن كل القيادات التي قادت لبنان إلى خرابه.

هذا المقطع الأخير في هذا النص، تافه ولا قيمة له أبداً. فلنعترف. عندنا رجال دين كثر، وليس عندنا دين. يستثنى من ذلك عدد من المؤمنين عن جد، والممارسين عن جد، والطيبين عن جد، والذين يؤلمهم أن يكون الدين الذي يجسدونه في إيمانهم وسلوكهم، هو الصفوة الممتازة، قيماً وأخلاقاً وإسانية. هؤلاء، الصامتون الآن، هم الأولياء والقديسون، عند من يعبدون… وأبواب النعيم أمامهم.

أخيراً، لا بد من نصيحة. “حلُّوا عن رجال الدين في لبنان”.

لقد بان الخيط الأبيض من الخيط الأسود. لن يتغيروا أبداً. هم كذلك. وهل قرأتم ما يقوله النص الديني بحق هؤلاء. إنه يلعنهم.

كفى إذاً، حلّوا عن رجال الدين. اتركوهم في غيهم. لقد بانوا على حقيقتهم، وبدا العار يكلل هاماتهم “الجليلة”. وهؤلاء، في كل دين يهيمون.

Exit mobile version