طلال سلمان

حين تطير النسور

تقع مدرسة ابني في الدائرة السابعة الراقية في باريس. ومع أنها ثانوية حكومية، فإن الكثير من أبناء أصحاب الثروات والمناصب السياسية يرتادونها.

أمس الأول، سألني ماإذا كان لدينا علم فلسطين، وعندما استوضحت، أخبرني أنهم قرروا الاعتصام غداً blocus، وهي عادة طلابية تقضي بالتجمهر أمام باب المدرسة وعرقلة دخول بقية الطلاب ومحاولة ضمهم إلى الاعتصام. الحدث يستحق الاهتمام من حيث موقع المدرسة ونوعية طلابها، وهو يعني بالنسبة لي أن فرنسا تتغير في عمقها المجتمعي حول قضية فلسطين.

المشكلة أن عمرو كان لديه يومها أحد امتحانات نهاية العام في مادة التاريخ، وهذا ماوضعنا أمام معضلة، فالمشاركة تعني المخاطرة بعلامة صفر اذا ما سُجِلَّ غائباً. والحقيقة أنه كانت لدينا مخاوف أخرى تتعلق بسلامته، فلم يعد من النادر الاشتباك بالأيدي أو التعرض للطرد من المدرسة في الجو السائد في فرنسا اليوم. وبما أنه من غير الوارد بالنسبة لنا أن نمنعه من المشاركة (هذا اذا استمع إلينا)، فقد اتفقنا أن يشارك ثم واذا ما توقف الاعتصام أن يدخل لأداء الفحص. لم يمنع أننا قضينا النهار مع بعض القلق.

في الصباح، وضع الكوفية على رقبته وذهب. في فترة بعد الظهر، أرسلت لنا ابنتي زين التي كانت تلاحق أخيها بالرسائل، صورة على الواتساب العائلي مع الأعلام الفلسطينية تصف الجو أمام المدرسة، وعند تساءلت زوجتي مها عما يجري بعد أن علمت أن عمرو سُجل غائباً بدون عذر، دار الحوار الآتي، أنقله تقريباً كما هو:

زين: حسنا هذه المرة سأدافع عنه (عن عمرو) كان المعتصمون يصفرون استياءً لدى دخول أي طالب، وقد رفض المدير أن يبرر غيابهم رغم أن كل المدرسة تقريباً كانت في الشارع (أضافت أن المدير تكلم عن معاداة السامية لكني لست متأكداً مما قال بالضبط).

مها: من أين حصلت على هذه المعلومات؟

زين: منه، بأية حال، لا يجب أن يمنعه فحص مادة التاريخ من أن يقف من الجانب الصحيح من التاريخ… دعوه ينشط بسلام.

أما عمرو، فقد اكتفى بالقول بإيجاز: انا في المدرسة، دون أية إيضاحات أخرى.

حصل عمرو على صفر في المادة، لا أهمية لذلك، لن أتناول هذا الموضوع معه، لا توبيخ ولا ثناء. إنه يملك من الذكاء ما يكفي ليعرف أننا ندعمه، وأنه قام بما يعتقد أنه الصواب. التاريخ هو أن نساهم قدر الإمكان بصناعة التاريخ

أما أنا، فقد كنت عائداً من موعد في منطقة البورغون أنظر إلى الطريق الجميل وقد امتلأ بالأشجار والألوان. فجأة وعلى مرمى ناظري، حطَّ طيرٌ كبير في منتصف الطريق، نسرٌ أو باشق، لست متأكداً، نظر حواليه ثم التفت باتجاه سيارتي بهدوءِ من يعرف أن لا خطر عليه من اقترابها، وفي لحظة حددّها هو، ضرب جناحيه وارتفع طائراً في السماء محلقاً فوق العشب والشجر والبشر. خطر لي أن النسر لا يأبه للتاريخ طالما أنه يصنع بجناحيه اللحظة الحاضرة، وأنه يرسم دوائر المستقبل في السماء تاركاً للبشر المكبلة مهمة التاريخ وعلى أي جانبيه يميل.

Exit mobile version