صباح باكر في يوم ربيعي. حديقة النادي تكاد تخلو إلا من نفر قليل من الرواد. رجلان في منتصف العمر احتلا مائدة يظللها دوح كريم، وعلى مسافة قريبة ومستفيدة من الدوح نفسه جلست سيدة لم تتجاوز نهاية العشرينيات إلى مائدة أخرى وفي يدها كتاب وأمامها كوب من القهوة سريعة الذوبان. طلب الرجلان قهوتيهما وبدا أنهما مستمتعان بالنسمات الرقيقة وأصوات الطيور وبالمكان الذي أحسنا اختياره بعيدا عن ملاعب الأطفال. مرت الدقائق الأولى وهما يتبادلان كلاما لا بد منه، مثل أخبار العمل وأحوال البلد وثورة النساء في الغرب وانكسارات الديموقراطية في كل مكان. انقطع الحديث ليسمحا للنادل بتنظيف المائدة وصف فناجين القهوة وصب الماء في الكوبين. وعندما عادا إلى الحديث لم يستأنفاه من حيث تركاه. فوجئ الرجل الأشقر قليلا بزميله الأسمر قليلا يعاتبه ليبدأ حوار انطلق ثنائيا وانتهى ثلاثيا.
***
يا رجل، منذ لحظة وصولنا وجلوسنا وأنت تحملق في السيدة الجالسة أمامنا. ماذا دهاك؟ أحس أنني لو كنت مكانها لتوترت، فالحملقة في الغير تثير قلقه وليس كما تتصور حضرتك تثير اهتمامه وتلفت انتباهه إليك فينبهر بجاذبتيك وينهار مغرما بك. صديقي، أنا لا أرى فيها ما هو أكثر مما في أي امرأة مرتدية ملابس محترمة ومنشغلة بما تسمع من موسيقى أو خطاب سياسي أو درس في لغة أجنبية أو نصائح للمحافظة على القوام. لم ألحظ أنها حاولت شد انتباهنا أو التعرف علينا أو مغازلتنا، فضلا عن أنها لا تضع إلا القليل من المساحيق تعمدت فيما يبدو أن تكون ألوانها وبخاصة أحمر الشفاه متناسبة مع بهاء الربيع وألوانه الطبيعية الخلابة. أفهم أن الرجل يجب ألا يحدق في المرأة. تكفيه نظرات سريعة إذا دعاه الفضول.
***
أجابه الأسمر بالقول ودون أن يتوقف عن التحديق، أتعلم يا صديقي أن في هذه الدنيا رجالا ـ أنا لست واحدا منهم ـ يحدقون في وجه المرأة لأنهم لا يثقون في القناع الذي تغطي به هذا الوجه. الرجل من هذا النوع يبحث عما حاولت المرأة أن تخفيه. هي تريد تأكيد جمالها وهو يريد انتهاز فرصة ضعف. يبحث عن تجعيدة لم تخفها المساحيق ويفتش من بعيد عن سطح غير ناعم للجلد فيخصمهما من جمالها. رجال لا يريدون أن يعترفوا لامرأة بأن جمالها طبيعي وحقيقي وكامل الأوصاف. يريدون لو أمكنهم مسح الطلاء عن الخدود والشفايف والكحل عن العيون لا لشيء إلا إثبات أن المرأة الجميلة جمالا كاملا كائن لم يخلق بعد، وربما لا يجوز أن يخلق. الغريب أننا وكل الرجال لا نتوقف أمام رجل لنبحث عن نقائص لنخصمها من «جماله».
***
تدخل الأشقر ليعترف بأننا ما زلنا نعيش حال هيمنة الذكور. قال: «قابلت رجالا يطلب إليهم الرأي في صورة أو لوحة بورتريه. .لاحظت أنه إن كانت الصورة أو اللوحة لامرأة أطال النقاد من الرجال النظر فيها، وإن كانت لرجل فنظرة سريعة. هذه الملاحظة قديمة، بل قديمة جدا. لا أشك للحظة واحدة أن علوم الجماليات، كلها أو أغلبها، منحازة للمرأة. النحات الذي أبدع في نحت تمثال الإلهة أفروديت ألم يكن منحازا للمرأة؟ لنتأكد، يكفي أن ننظر إلى ذراع أفروديت في أحد تماثيلها، ونسأل إلى أي مكان في جسدها كان يشير الذراع ليراه ويتأمله كل رجل ساقه الحظ ليقف أمام التمثال. أم، وهو تفسير بديل، أن يكون الذراع يحاول أن يخفي جزءا من جسم أفروديت. وعندئذ سوف تزداد رغبة الرجل الزائر في أن يعرف ماذا أرادت أفروديت أن تخفيه. أفروديت، في الحالتين، تنتظر أن يأتي الرجل لينظر محدقا. بمعنى آخر كان الفنانون منذ أيام الإغريق وأغلبهم رجال يرسمون وينحتون ويصورون المرأة وهي في وضع انتظار رجل ينظر إليها محدقا. هكذا كان ولا يزال الرجل مهيمنا. وأحيانا كان يبالغ. اسمعني قليلا وأنا أحكى لك قصة تناقلتها الأجيال عن تمثال أفروديت. التمثال بديع إلى حد أن النقاد، وبعض الفلاسفة اعتبروه وبحق يجسد «الوهم الكامل» للحقيقة. تقول القصة: «إن زائرا وقف يحملق في التمثال حتى هبط الليل وأغلقت عليه أبواب المتحف. في الصباح اكتشف الحراس أن الزائر حاول اغتصاب أفروديت تاركا أثرا في رخام التمثال.
***
استأذن الرجل الأسمر في فرصة ليعلق. قال: صحيح أن المرأة لا ترتاح إلى الحملقة. تكره من يحرجها سواء كان معجبا أو باحثا عن أخطاء ونقائص، ولكنها في الحقيقة تخشى الأحكام السريعة التي يطلقها أصحاب النظرة السريعة. لقد ثبت أن هذه النظرات السريعة يمكن أن تنتهي إلى إصدار تعميم. والمرأة بطبيعتها تكره التعميمات وبخاصة إذا صدرت عن رجال. تكره التعميم في نقد أعمال النساء الأدبية بل تعتبره خطرا عليها لأن أحكامهم تصدر بدون تعمق أو تأمل كاف. تكره التعميم في الحب وهي دائما تسأل لتتأكد من أنها مختلفة، إن لم تكن فريدة. سمعت من تقول إن النظرة السريعة، كاللمحة، لا تملك أن تتجول في وجوهنا وأجزاء أجسادنا لتعرف تفاصيلنا. بعض الرجال يتصورون خطأ أنهم عرفوننا حق المعرفة من أول نظرة. هؤلاء لم يعرفوا شيئا وعندما اقتربوا اكتشفوا جهلهم، ودفعنا غاليا نحن وهم ثمن اكتشافهم جهلهم.
***
وقفت مستأذنة أن تسحب مقعدا وتجلس معهما. انتفض الرجلان وأسرعا بسحب مقعدين من مائدة مجاورة وليس مقعدا واحدا. جلست على مقعد منهما ودعتهما إلى الجلوس عندما وجدتهما مترددين. بادرت باعتذارين: اعتذار عن اقتحامها خلوتهما، واعتذار عن استماعها إلى جانب أو أكثر من حوارهما. سألت إن كان يمكنها التعليق واستطردت دون انتظار إجابة من أيهما. صارحتهما بالاعتراف بأن أروع لحظات عمرها كانت تلك التي عاشت فيها مع الرجال باعتبارها واحدا منهم.. «أقمت بينهم أراهم وأراقبهم متناسية أنني امرأة. عرفتهم على حقيقتهم. كانت لحظات سحرية تيقنت أثناءها من أن العالم هو بحق عالم ذكور».
«أنا مثل كل النساء ضحية إحساس دائم بأنني كلما وقفت أمام مرآتي وجدتني أنظر إلى نفسي بعيون آخرين. عيني لا تراني. عيون أخرى هي التي تراني أما أنا فأراني من خلال تلك العيون. هذا هو ما فعله بنا الذكور على مر القرون، ثم جاءت «الميديا» المجنونة لتستكمل ما فعله الذكور.
أعرفكم أيها الرجال، أعرف أنكم تعتقدون أن المرأة جبلت على أن تخدعكم. تخدعكم بالمساحيق والألوان والأقنعة. لا خداع في الأمر. بل براعة وجرأة. تستهينون بها. هي تعرف كيف تنتقم لو أن الرجل لم يلاحظ أو لاحظ ولم يستحسن. اللعنة على رجل يتخيل ما تحت المساحيق والألوان. اللعنة على رجل يتخيل ما تحت قناعي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق