طلال سلمان

حوار عتيق بين سمير جعجع وجوزف سماحة: لنعترف بأننا شعبان.. ولتكن لنا دولتان بينهما شريط فاصل!

ذات يوم من صيف 1983، دخل عليّ الزميل جوزف سماحه ليقول والدهشة تغطي وجهه: لقد اتصل بي سمير جعجع..
قلت: جعله الله خيراً.. فماذا يريد؟!
قال: يريدني أن اصعد اليه في دير القمر. قال أن لديه الكثير ليقوله.. وانه قد اختارني و”السفير” من دون غيرنا.. فماذا تقول؟!
كنت اعرف أن الامر يحتاج إلى تفكير عميق والى قرار جريء، فتاريخ الرجل لا يشجع، وفي عنقه دماء الكثير من الضحايا الابرار، فيهم بعض السياسيين والكثير الكثير من المواطنين الذي لا ذنب لهم الا موقفهم السياسي او موقعهم الجغرافي.
قلت: لنفكر معاً. في البدء لا بد من ضمان سلامتك. ثم علينا أن نعرف هل يريد مقابلة للنشر ام مجرد لقاء تعارف ومحاولة لمسح صورة قائد الميليشيا الدموي وتقديم نفسه كمحاور وكرجل فكر وصاحب نظرية سياسية كما يحاول أن يبيع “صورته” للناس، تخفيفاً من أثقال ما يعرفونه عنه وفيه..
بعد جولة نقاش بصوت عال حول “الهدف” السياسي من هذا “الاستدعاء”، كان ضرورياً التفكير بضمانات السلامة.. خصوصاً وان جيش الاحتلال الاسرائيلي كان ـ بعد ـ يحتل الجبل، وجعجع يعيش بحمايته..
قال جوزف: سأخبره انني اريد بين الضمانات الا يوقفني أي حاجز للعدو، ويمكن أن ينتظرني بعض مرافقيه عند نقطة معينة، ويتولون هم امر الحواجز الاسرائيلية، ثم يعيدونني إلى حيث اترك سيارتي ويصحبني رفيق لي بوصفه سائقي..
…وهكذا كان: ذهب جوزف سماحه إلى دير القمر، “وفق الخطة الموضوعة”، فالتقى جعجع في احدى الفيلات، وامضى معه ست ساعات كاملة.. وعاد الينا سالماً. ولله الحمد.
فأما الحوار بين قائد الميليشيا الحافل تاريخه بالدماء والضحايا والكاتب الصحافي الذي “قاتل” خلال الحرب الاهلية كمحارب في صفوف الحركة الوطنية، ولكنه لم يقتل عمداً وبقصد مقصود أي خصم.. بل كان مدافعاً عن “منطقته” و”اهله”، فقد يكون قريباً من “المواجهة” او “المعركة”، ولكن بالمعنى السياسي او الفكري.
عاد جوزف مع هبوط الليل، وكنا ننتظره في جو لا يخلو من القلق، فحتى إذا ضمن جعجع “حواجز ميليشياته” فمن يضمن العدو الاسرائيلي؟!
تحلقنا من حول الزميل المتميز ذكاء وثقافة نستمع إلى تفاصيل رحلته الاسطورية، قبل أن يبدأ بسرد مضمون الحوار الذي كان “هادئاً” و”كاشفاً للنوايا”، على حد تعبير جوزف.. بل انه خريطة طريق لهذا الرجل الذي لم يكمل دراسة الطب وساعدته الظروف في التخلص من كل “قادته” وبالذات بشير الجميل ليغدو هو “القائد” ويتقدم لتحجيم سائر القادة المسيحيين، وفيهم من هو أعتق في الزعامة وأولى بها.
قال جوزف: يمكنني تلخيص الحوار بأن سمير جعجع قد عرض رؤيته للبنان ما بعد الحرب، بنظامه السياسي، وقبل بجغرافيته السياسية التي تستند إلى تركيبته الطائفية، لا سيما بعد “حفلات التهجير المتبادل” التي جعلت بعض المناطق والجهات ذات اكثرية اسلامية بينما صارت مناطق أخرى ذات اكثريات مسيحية..
طلبنا قهوة ثانية، وعاد جوزف يكمل وقائع الرحلة والحوار قبل أن يخلص إلى الاستنتاج، قال: سأحاول الآن أن الخص، على أن اكتب في ما بعد تفاصيل الرحلة المفاجئة ومنطق “قائد القوات اللبنانية” الذي يتميز بصراحة صادمة، ولكن صاحبه يدلي به وهو اشد ما يكون ايماناً بمندرجات هو الاستنتاجات..
خلاصة منطق “الحكيم”، كما يحب أن يُنادى، اذا شئنا الاختصار هو التالي:
قال: خيي جوزف، لماذا نكرر تجاربنا الدموية عبثاً؟! لماذا نقاتل بعضنا بعضاً بل نقتتل حتى حدود الابادة او التهجير كل عشر سنوات او يزيد قليلاً؟! لماذا لا نعترف بالحقيقة التي تؤكد ذاتها كل يوم على امتداد تاريخنا الحديث، وهي اننا شعبان بل أمتان ليس لأي منهما علاقة بالأخرى؟! لماذا التكاذب وتبويس الذقون في مصالحات لا تعبر عن حقيقة مشاعرنا ونظرتنا إلى انفسنا والى حياتنا؟!
ولقد توقف سمير جعجع لحظات عن الكلام ليشرب قهوته، ثم عاد ليكمل فيقول: خيي جوزف، لقد تابعت باهتمام مشهد المسلمين وهم يودعون ياسر عرفات عند باب مرفأ بيروت. كان الحشد مهيباً، الرجال يطلقون الرصاص والنساء يرمين اطواق الزهور على المقاتلين الراحلين، ووليد جنبلاط يلف كوفية فلسطينية حول عنقه، ويرفع رشاشه ليطلق الرصاص، كما يفعل كثير من الرجال من حوله.. وأصدقك القول أن هذا المشهد قد اثر فيّ تأثيراً بالغاً، بالمعنى الانساني، ولكنه بقدر ما شدني فانه اكد حقيقة ثابتة لا ينفع أن نظل ننكرها: اننا حقاً وفعلاً شعبان وأمتان لا يربط بنا أي رابط الا الجغرافيا.. فلنعترف، اذن، بهذه الحقيقة الثابتة ولنتصرف على اساسها. وهكذا يستقل كل منا في منطقته، ونقيم في المنطقة الحرام، في وسط بيروت مثلاً، خط فصل بين الكيانين المستقلين..
طلبنا قهوة لجميعنا لنريح جوزف قليلاً، لكنه سرعان ما استأنف حديثه كمن يريد أن يتخفف فيدلي بفعل الاعتراف كاملاً.. قال:
لعل سمير جعجع قد لاحظ دهشتي وربما استنكاري لما اسمعه فعاد يقول: حبيبي يا جوزف، كل البلدان متعددة الهويات لجأت إلى هذا الحل المريح.. شريط بسيط يفصل بين “دولتكم” و”دولتنا”، فاذا ما اردت، ذات يوم، أن تأتي إلى منطقتنا فتلعب القمار في الكازينو وتختار فتاة لتساهرك وتسمر معك، تقدم جوازك عند الحاجز فيختم لك بختم بسيط وتدخل فتنتشي وتعربد وتقامر، بحرية مطلقة.. وان اردت انا اذهب إلى منطقتكم لأشتري اللحم والبطيخ، اقدم جوازي ليختم ثم ادخل فأتبضع وأعود إلى “دولتي” و”كانتوني” او ما شئت أن تسمي “منطقتنا”..
وأنهى جوزف سماحه كلامه بأن قال: ولقد ختم جعجع حديثه الصريح هذا بالقول: هكذا نرتاح ونريح.. يعيش كل منا في منطقته وعلى راحته وبطريقته ووفق تقاليده، فلا يزعج احدنا الاخر، بل نعيش جميعاً بأمان واطمئنان.. وكفى الله المؤمنين شر القتال، كما تقولون في ذلك القاطع، أي في “دولتكم”.
ذلك كان قبل اربع وثلاثين سنة، في خريف العام 1983، وفي دير القمر..
ولقد رحل جوزف سماحه، قبل عشر سنوات الا قليلاً، لكن سمير جعجع يقدم نفسه الآن وكأنه “الوحدوي الأخير” في لبنان بشرط أن يكون رئيساً للجمهورية .. فالمنصب الفخم اهم من العقائد والنظريات.
ولعله يفترض انه عند ذلك، وعند ذلك فقط، يكون قد كسب الحرب الأهلية.. ولم يعد بحاجة إلى الشريط الفاصل بين “الدولتين”.

Exit mobile version