طلال سلمان

حن كما تشاء ولكن لا تعد

لا أعود، إلا مضطرا، لزيارة مواقع وقعت في حبها في ماضِ الأيام خلال إقامة طويلة أو زيارة قصيرة. عشت أخاف إن عدت إلى موقع من هذه المواقع فسوف أجده تغير في الشكل أو في سلوكيات الناس وبالتالي أفقد بعض حبي له أو يتراخى تعلقي به. لا أفهم كيف أتوقع أن يحدث هذا في علاقتي بمدن وبحيرات وغابات وجبال خضراء تطل على بحار تلامس الأفق وتستقبل شمس الغروب ولا يحدث مع أفراد كثيرين تعلقت بهم، فإلى هؤلاء أنا أعود دائما. إن هم ابتعدوا أبذل جهدا في السعي إليهم حيثما كانوا وأينما وجدوا. أعرف أنهم تغيروا كما تغيرت أنا نفسي وربما أكثر. تغيروا ولا شك في الشكل وربما في السلوك ومع ذلك يبقى تعلقي بهم قويا وفي حالات بعينها عاد أقوى.

•••

عشت سنوات في إيطاليا. أحببتها وأحببت أيامي فيها. أحببت روما بوجه خاص وأحببت أهلها وتعلقت بالكثيرين منهم. أعجبني فيهم عشقهم الساخر لوطنهم ولغيرهم من الإيطاليين. لا يصدقون ما درسوه ويحكى عن بطولات أجدادهم في زمن الامبراطورية ولكنهم يشتركون في تمجيدها وإن أحيانا بسخرية. أبدعوا في التمييز بين اعتناقهم التزام الأخلاق المسيحية التي تحملت امبراطوريتهم مسئولية نشرها وبين اعتناقهم على امتداد العصور مبادئ التحرر منها في معظم علاقاتهم الاجتماعية. عرفوا كيف يضيفون إلى جمال الطبيعة جمالا وإلى جاذبيتها جاذبية وإلى الموسيقى لمسات عبقريتهم. عشقت السفر بين مدنها بكل وسائل النقل، بسيارتي الفورد وبالقطار والحافلات نهارا، عشقت بخاصة رحلة القطار الليلية بين روما وميلانو وبالعكس. عشت سنوات أخفي سر هذه الرحلة الشهرية إلا عن من استحق شرف كتمان كل الأسرار.

تلقيت على مر السنين عديد الدعوات وجاءتني عشرات الفرص للعودة إلى إيطاليا في زيارات قصيرة. رفضتها جميعا وأنا أتألم. شاءت ظروف خارجة عن الإرادة أن أتوقف في روما لساعات معدودة. كنا، محمد حسنين هيكل وأنا، في الطريق من ليبيا إلى القاهرة خلال رحلة أخذتنا إلى فرنسا والمغرب والجزائر وليبيا. كان ضروريا أن نتوقف وننتظر في مطار روما الساعات الفاصلة بين وصولنا للمطار ورحيلنا منه إلى القاهرة. اختار هيكل قضاء هذه الساعات في مدينة روما واخترت أن أقضيها مع نفسي على شاطئ البحر في ضاحية أوستيا على أن نعود فنلتقي في المطار لنأخذ معا طائرتنا الإيطالية المتوجهة إلى القاهرة. لم يفهم رفيق الرحلة، وأظنه لم يحاول أن يفهم، الدافع وراء انطفاء الرغبة في زيارة روما ولو لدقائق وهو الذي سمع مني وعني حكايات تنبئ عن إعجابي غير المحدود بهذه المدينة الساحرة وعشقي لشعبها خفيف الظل.

•••

 يبدو أن التلال والجبال تجذبني إلى العيش في وسطها أو على قرب مناسب منها. روما كما تذهب الأسطورة مدينة قامت، أو تقوم على سبعة تلال. لا أشك في الأسطورة فلكل حكاية من التاريخ حكاية أخرى تناقضها أو تبذر شكوكا في صدقيتها. ربما كان يجب أن أتحقق بنفسي. لم أشأ أن أتحقق بعد أن استقر بي المقام في المدينة الخالدة فالحب في أوله لا يحتمل  التشكيك ولا يتسامح معه إن وقع. والحب في بقية مراحله لا يهتم بمثل هذه التفاصيل.

•••

 مدينة أخرى استقبلتني استقبال روما وأرست الأساس لعلاقة تعتمد نظرية النظرة الأولي بين عاشقين. تبادلنا على الفور عاطفة غريبة في نشأتها وعجيبة في أطوارها. لم أكن واثقا من صفات لم ترد في الكتب التي قرأتها قبل وصولي أو بالشروط التي يجب  توفرها في الزائر قبل أن تطأ قدماه أهم ساحاتها أو يتعرف على أحلى بناتها. عرفت يوم وصولي أن لسانتياجو علاقات مع تضاريس أكسبتها ملامح خاصة وأنعمت عليها بجمال لم تحظ به عواصم أخرى زرتها أو عشت فيها في أمريكا اللاتينية. لم أقارن بين روما وسنتياجو. كنت على حق إذ علمتني السنوات اللاحقة وجوب تفادي المقارنة  وأنا تحت تأثير الانبهار أو حتى الارتياح. ما كان يمكن على كل حال أن أقارن بينهما. هناك في روما الجمال أنيق وأخاذ وهنا في سنتياجو جمال بسيط وأخاذ، أحدهما يحتضن جميع عواطفك ويبقيها ملتهبة والآخر ينزل عليك بعد إنهاك السفر والقلق بردا وسلاما ويبقيها حبا ناعما وشفافا. لا يتركك إلا وقد صارت سنتياجو جنتك المفضلة على الأرض والإسبانية بلهجة الكاستيلانو لغة من لغاتك الأصلية.

•••

 لي صديق يكبرني بعام أو بعام ونصف. ولدت في البيت رقم 16 وولد بالبيت رقم 15. تنقلت بين بلاد الكون وبقي في مصر لا يغادر. عشنا  نتصل الواحد بالآخر كل حين. نطمئن على مسيرة العمر في تقدمه. نتبادل التشجيع ورفع الهمم. يهنئني بما حققت من توازن في مجالات غير قليلة وأهنئه بما حقق من استقرار في عواطفه. أوجه له بعض الأسئلة عن الأصدقاء المشتركين وأحسده حسد المحب على قوة ذاكرته. اتصلت به فور انتهائي من كتابة الفقرات السابقة من هذا المقال. طلبت منه أن يتنحى جانبا بعيدا عن جلبة أحفاده لأن أسئلتي كثيرة هذه المرة.  قلت “يا محمد، يهف أمامي بكثرة هذه الأيام الأخيرة منظر شارعنا الذي ولدنا كلانا ونشأنا وعشنا فيه كل سنوات طفولتنا ومراهقتنا. أرى الشارع يا صديقي ينتهي في شارع رئيسي يمر فيه الترام الذي كثيرا ما ركبناه أمي وأنا. ننتظر وصوله وقوفا على رصيف محطة لاظوغلي. تختار أمي كابينة السيدات رغم معارضتي لأنها لم تكن تطل على الشارع من جميع مداخلها كبقية أقسام الترام. يأخذنا الترام عبر ميدان السيدة زينب ثم شارع الخليج لننزل في محطة باب الشعرية. كثيرا ما كان الكمساري يتصرف مع أمي بأناقة فيصر على إعفائها من دفع قيمة نصف التذكرة للطفل الجالس بجوارها، راجيا إياها أن تنقلني إلى حجرها عند وصول المفتش. سألت محمد “هل ما زال شارعنا يصب في شارع الترام أم انحرف به الزمن؟ “. هل تذكر يا محمد “صالون” عم توفيق الحلاق؟. من يا ترى ورث المحل فالرجل كان متقدما في العمر وفي الشكل أيضا؟ يعني كان في حوالي الأربعين وقتها. طيب وهل ما زال شبان الشارع يلعبون الكرة في عرض الطريق؟ لا شك تذكر يا محمد  الشاب الذي كنا نختاره دائما ليقف حارسا لمرمانا. سمعت أنه توفي قبل عامين أو ثلاثة وأن جنازته شيعها كبار القوم على أنغام الموسيقى الحزينة. يهف أيضا على مخيلتي الأسطى علي السروجي الذي كان يسكن ويعمل ويستضيف إحدى زوجاته في غرفة تحت سلم بيتنا. تذكر أننا قررنا باجماع الأصوات اصطحابه في رحلتنا الصيفية إلى الإسكندرية ليرى البحر وتوسطنا لتعيينه حاجبا في وزارة مهمة عندما صار لأحدنا كلمة مسموعة. أذكر يا محمد صلاح جاهين وأصدقاءه الذين كانوا يزورونه في بيته المطل على حوش المدرسة. أذكر أيضا روضة الأطفال وكانت في أول الشارع ومدرستي الابتدائية على شارع الترام ومدرستنا الثانوية في شارع نوبار. أذكر يا صديقي أننا لم نفترق إلا عندما دخلنا الجامعة.  قلت لي ذات مرة بعد سنوات من مغادرتي الشارع إن حوالي الثلثين من رفاق الحي اختاروا الكلية الحربية والثلث ومنهم أنا وأنت وإسماعيل وسمير وقناوي ويوسف ويعقوب والبنا وكل البنات اخترنا الكليات المدنية. أتساءل يا محمد ولن أطيل عليك. بيتي وبيتك، كما كنت أسمع، شيدا في الثلاثينات. هل ما زالا ينتصبان هيبة وسكانا؟ أشعر برغبة شديدة في الذهاب إلى هناك وزيارة المكان بعد هذه السنين العديدة.

رد الصديق برسالة لا ينقصها التفصيل. قال “من فضلك لا تعود. بيتك يا صاحبي هبط مترا أو أكثر في الأرض. أنسيت أن عمره الآن يقترب من المائة. لم يتبق من كل ما ذكرت وهف عليك سوى المدرستين اللتين كانتا تطلان على شارعنا. رحل عن عالمنا عم توفيق الحلاق والأسطى على السروجي ومعظم لاعبي فريق كرة القدم وآخرهم حارس المرمى. أما الترام يا صاحبي فقد خلت منه الشوارع ورفعت قضبانه وحلت حافلات مختلفة  الأجناس والأعمار والصحة والعافية محل أوتوبيس الثورني كروفت الإنجليزي المنحني على جانبه الأيمن تحتك سلالمه مزمجرة  في الإسفلت في ذهابه وإيابه. صباح الخير يا جاري. نحي عن خاطرك هذه الفكرة . فكرة أن تعود في رحلة لإلقاء لمحة على شارع ليته بقي في ماضيه ولم يجرب التغيير”.

•••

 وعدت صديقى ألا أطيل عليه فساقه الكليلة تؤلمه وتدعوه ليبتلع من أجلها قرصا من عديد الأقراص التي يحتفظ بها بجانب فراش نومه. أجلت توجيه أسئلة كثيرة أو نقسمها معا مجموعات. أريده يحكي بذاكرته الرائعة عن المرة الأولى التي شربنا فيها البيرة ولم نتجاوز الثانية عشر من عمرنا إلا قليلا.  أذكر أننا اشتريناها بسبعة قروش واصطحبناها مع كيس فول سوداني إلى سينما ستراند الصيفية وكلانا عوقب عند العودة. أريده يحكي عن ليالي الغارات الجوية التي كان يشنها الطيران الألماني على معسكرات الإنجليز في قصر النيل، محل فندق الريتز والجامعة العربية، كنا كبارا وصغارا نجتمع  ساعة الغارة عند سكان الدور الأرضي من بيتنا أو في شقتكم بالبيت المقابل لبيتنا. الكبار يناجون ربهم “يا نجي الألطاف نجنا مما نخاف” والصغار بنات وصبيان لاهون يلعبون الاستغماية وسط الظلام الداكن.

•••

قبل أن نتبادل عبارات التوديع المناسب عاد يلح  بالنصيحة التي بدأ بها. لا تعود يا صديقي. الماضي لن تجده في شارع أو مدينة أو عند شخص آخر.  الماضي هو ما استطاع خيالك إبقاءه حيا.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version