طلال سلمان

حنا مينا يغـادرنا: عودة “الشيخ” إلى “البحر”..

هل انتهى زمن “الكبار”: الروائيين والشعراء وكتّاب المسرح ومعهم ايضا المميزين من أهل القلم، صحافيين ورسامين ومبدعين في فن الكاريكاتير؟

أم انها مسألة جيل أدى رسالته على أكمل ما ساعدته موهبته والظروف السائدة والذائقة الفنية لذلك المجهول الذي يسمى “الجمهور”..

ترد في الخاطر مثل هذه الافكار الساذجة مع الاستماع إلى نعي الروائي العربي الكبير حنا مينا، وهو الذي تجسد حكايته مرحلة من مراحل تأكيد الهوية القومية في مواجهة مختلف انواع التغريب والتتريك والخروج من الامة وعليها..

كتب حنا مينا الامة، عبر مسلسل رواياته التي اتخذت سياقاً مميزاً، لا يقرب التقليد ولا يشابه ما كتبه غيره، من “الكبار”، وان تميزت سيرته الذاتية بما حفلت به خلال رحلته الطويلة مع الرواية التي تكاد تلخص أكثر من مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر عبر ما يقارب المئة سنة من احداثه الجسام وتطوراته الخطيرة.

التقيت حنا مينا، أول مرة، في منتصف الستينات، وجلست استمع إلى هذا الحكواتي ـ البحري مستمتعاً، أتأمله وهو يمتص السيجارة وكأنها اصبع حلوى، وكان البحر ضيفاً دائماً يستحضره حنا في أي حديث، ونستعيد معه بعض وقائع حياته الفريدة التي يشكل البحر متنها..على أن الغصة سرعان ما تخنق صوت هذا الكهل حين يستذكر اسكندرون التي لا يمكن أن ينسى انها “سورية”، وانها مثل فلسطين “الارض السليب”، ثم يهتف بمضيفنا حسين العودات: أن ارضنا السليب اوسع من ارضنا المحررة، فكل الارض الغنية بثرواتها الطبيعية ليست لنا.. على أي حال فهذا شرف: اننا نعيش بكرامة وليذهب النفط إلى الشيطان.

حنا مينا الذي عاش شبابه الاول شبه أميّ، سرعان ما علَّمَ نفسه القراءة والكتابة، قبل أن يباشر إصدار رواياته الرائعة التي بطلها الدائم هو البحر. الذي عاش معه وفيه، واستنبت معظم ابطاله وحكاياته من امواجه واسرارها الدفينة.

عاش حنا مينا الاشتراكية قبل أن يقرأها، عاشها فقراً وكدحاً، وعلم نفسه ليعرفها اكثر.. ودخل الحزب الشيوعي ليتعرف إلى الاشتراكية في “معسكرها” بقيادة موسكو، وزار معظم الدول التي كانت ترفع العلم الشيوعي، وعاش فيها بعض مراحل عمره.. ثم شدته اللاذقية التي ولد فيها، وغادرها لفترة ليزور “اهله” في القضاء السليب “كيليكيا” و”اسكندرون” قبل أن يعود اليها ليعيش روايته العظمى مع البحر، يلاغيه ويستنطقه حكايات العابرين والغرقى والسياح والسابحين في قلب امواجه والصيادين والاسماك التي لكل منها حكاية تشابه حكايات عابري الامواج إلى المنافي البعيدة.

بعد حين، سأزوره في مكتبه الضيق الذي تزدحم فيه حكايات ايام الفقر، والذي يحتفظ في درج مغلف بوصيته التي كتبها حين بلغ التسعين، والتي طلب فيها أن يدفن من دون مأتم، معتبراً الكتابة “الطريق إلى التعاسة الكاملة”… وقد احاط نفسه بصور اصدقائه الكبار: غوركي ودستوفيسكي، وهمنغواي وتشيخوف والى جانبهم “البطل ستالين”.

يرتاد صاحب “الشمس في يومٍ غائم” مناطق مجهولة وشائكة في حياته القاسية بأقصى حالات الواقعية الخشنة. الأب البوهيمي هاجر في الثلاثينيات من القرن المنصرم من لواء إسكندرون إلى اللاذقية، متشرّداً في متاهة ضياع، يفتش عن ملاذٍ آمن. وسوف يتشرّد الابن في ترحال مشابه، تحت وطأة ظروف مختلفة، إلى أن وصل إلى الصين منفيّاً. حامل الابتدائية كان يكتب الرسائل للجيران، والعرائض للحكومة، إلى أن افتتح دكاناً للحلاقة أمام ثكنة عسكرية في اللاذقية، وموزّعاً لجريدة “صوت الشعب” الشيوعية. سوف نستحضر سيرة البديري الحلّاق الذي كان يكتب “حوادث دمشق اليومية”، لكن كاتبنا كان حكواتياً بحريّاً بإمتياز.

وبحسب ما نقل عنه صويلح خليل في بعض لقاءاته معه:

“إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب” يقول. هكذا انخرط صاحب “الياطر” في توثيق صخب الموج، ليدخل البحر إلى فضاء الرواية العربية، مضيئاً منطقة سرديّة بكراً. نص “الشراع والعاصفة” تاه طويلاً. ضاعت المخطوطة ثلاث مرات، ثم أرسلها من الصين إلى صديقه سعيد حورانية، فتاهت مرّة أخرى في البريد البحري بين شنغهاي وبيروت، لتصل بعد ثلاثة أشهر مبللة، “أُنقذت المخطوطة على يد كوّاء قام بتجفيفها على مهل، وطُبعت بعد عشر سنوات من التجوال”.

في الخمسينيات، انضم حنا مينه إلى أسرة جريدة “الإنشاء” الدمشقية، محرراً تحت التمرين، مقابل مئة ليرة سورية في الشهر، فاضطر إلى أن يطلب سلفة عشر ليرات من صاحب الجريدة، وما إن حصل على المبلغ حتى توجه إلى مطعم قريب، للتعويض عن جوعٍ متراكم. بضع قصص قصيرة كتبها حينذاك أدخلته النادي الأدبي، فكان واحداً ممن أسّسوا “رابطة الكتّاب السوريين” (1951)، لكنه سوف ينسحب لاحقاً من عضوية “اتحاد الكتاب العرب” الذي تأسس على أنقاض الرابطة، إثر حادثة فصل أدونيس من الاتحاد، ويُصدر بياناً مضاداً لقرار الاتحاد بمشاركة سعد الله ونوس.

الشهرة التي وضعته في مكانةٍ مرموقة، لم تقده يوماً إلى تجاهل تفاصيل حياته المرّة. على العكس تماماً، فقد كانت وقوداً لرواياته، ما انفك يستحضرها مثل تعويذة تحمي روحه من التلف. ويعترف هذا الروائي الرائد بأنّ الكتابة مهما كانت عميقة ومؤثرة، لا توازي تجارب الحياة التي خبرها بكل قسوتها. ذلك أنّ الواقع، كما يقول، “يحفر نقوشه على جلود البشر بأداة محمّاة، تكوي، وتترك آثاراً وندوباً لا تزول”.

في أوائل الثمانينيات، أطلق صيحته الشهيرة “ستكون الرواية العربية ديوان العرب في القرن الحادي والعشرين”. بدت هذه النبوءة حينذاك مجرد صيحة في واد. التقط النقّاد الفكرة، وانتشرت مقولة “زمن الرواية” على نطاقٍ واسع، وإذا بجيل جديد يبزغ في المشهد الروائي العربي. بعض هؤلاء عاجل إلى “قتل الأب”، لكن روايات حنا مينه ظلّت في مقدمة أكثر الكتب مبيعاً، وإن لم تضاه أعماله الأخيرة، منجزه الأول.

في رصيده اليوم نحو أربعين رواية، قد تتفاوت قيمتها التخييلية، وأهميتها السردية، لكن يكفيه أنه وضع الحجر الأساس لهذه العمارة الشاهقة. شخصيات مثل “زكريا المرسنلي” في “الياطر”، و”الطروسي” في “الشراع والعاصفة”، و”مفيد الوحش” في “نهاية رجل شجاع”… نماذج حيّة عن اشتباك التخييل الروائي بالتجربة الحياتية. ليس النموذج ما يبتغيه حنا مينه في رواياته، فهو يؤكد على الصدق أولاً. لعل هذا ما وضع رواياته في مقام الأدب الشعبي، وإلا ما تفسير ذلك الطابور الطويل من القراء الشباب في معرض دمشق الدولي للكتاب، كل عام، في انتظار أن يوقّع حنا مينه نسخهم الشخصية من رواياته؟

هكذا يختزل المسافة بين الرواية والسيرة الذاتية، معوّلاً على مفارقات الحياة وحماقاتها وطيشها، إذ يرى ضرورة إماطة اللثام عمّا هو مسكوت عنه، على هدى ما كتبه الأسلاف منذ قرون. ويلفت إلى جرأة محمد شكري في “الخبز الحافي” بوصفها نموذجاً غنيّاً في كتابة السيرة. عدا ذلك “لا تكون المدوّنات الشخصية معبّــرة عن الحقائق”.

رحل حنا مينا، بعد أن اضجره العمر الطويل، تاركاً خلفه تاريخ مرحلة كاملة من عمر سوريا، ومشاهدات شملت بلاداً عديدة، وان ضربته خيبة الامل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي.

مات “الشيخ والبحر” الذي أحب همنغواي ولم يقلده، بل ظل يحب سوريا حتى النفس الاخير.. ولعل فرحته قد اكتملت بتكريمه في القاهرة وسط كوكبة من ادباء مصر الذي قرأهم فأحبهم كما أحبوه.

رحم الله هذا الاديب الكبير الذي علّمَ نفسه بنفسه، وكان البحر استاذه الاكبر والاشتراكية مرجعه وسوريا التي أحبها حتى العشق موطنه الذي عاش له وفيه حتى آخر نفس.

 

Exit mobile version