يتلاطم الكلام، وغير ذلك، هذه الأيام فيما بين الشوارع والأبراج (العاجية) وبين الساحات والمنصّات (الحزبية والجِهوية) وبين مندوبي القناصل وجهابذة الإعلام و… عن مواصفات الوزراء المطلوب تعيينهم في بديلة المستقيلة ومعايير تشكيل الحكومة المنشودة في مسرحية هَزَلية وصفها بحقّ أحد النقّاد “بالرقص على أوجاع الناس”. ومنعًا للإلتباس والتأويل نستبق أي ردود بالقول أننا مع الإنتفاضة ضدّ كلّ من وما أوصل الحال الى ما آلت اليه منذ انتهاج “لبنان” نمط إقتصادي ـ سياسي “توافقي” يمكن تلخيص ماليّته بنهج “الإسراف الفارِهْ في العيش على حساب تجويع الناس”!
فمن المطالبة بحكومة سياسية الى حكومة تكنوقراط (“صافية”) الى تكنو ـ سياسية (2) الى تقنية الى أختصاصيّين، واللغة العربية لا تنضب من المفردات التي متى “فُرِدَتْ” على مساحاتها كَثُرَ ما ضاع في طيّاتها لبّ الموضوع.
وما رأيك أنت أيّها الناقد الذي “لا يعجبه العجب”؟
ومن دون الغوص في خلفية الطروحات أو مرامي المقترحات أو تفاصيل التسميات التي ذكرت وبغيرها من الإقتراحات ممّا يمكن تقديمها، أرى من المفيد إعادة البوصلة، بمغناطيسها الطبيعي، الى الوجهة الصحّ، لا وجود لوجهة غيرها، إذا كان لبنان الحراك والرسمي والمسؤول والشعبي يريد حلًّا … فعلًا. وبغضّ النظر عن مواصفات وزير تقني أو تكنوقراط (3) أو إختصاصي، يجدر التذكير بحكومات مرّت على لبنان وبوزراء أمكن توزيعهم على كلّ هذه التسميات ولم يفتقدوا لأي من الإختصاصات المطلوبة وقد بات واضحًا أن لبنان لم يَسْتَفِدْ من تجاربه السابقة إلّا قليلًا وليس بالحدّ المطلوب بدليل الوضع الزري الذي نحن فيه. والى جانب بعض الإختيارات الممتازة التي مرّت في حكوماتنا منذ الإستقلال (ونحن في صلب مناسبة هذا اليوم الوطني) مرورًا بحكومة الشباب وثورتها من فوق، كما كان يُرادُ لها أن تكون، الى يومنا هذا، إلّا أنّ لبنان عرف أيضًا أسماءً بدأت عملها على أنها تقنية لتصبح “سياسية” بامتياز، ومنها من كان “تكنو” ساد فساده بعد ظهور إرتكاباته بتاريخ سابق أو لاحق لممارسته مهامه الى جانب غيرها من المفارقات ذات الدلالة.
من ناحية ثانية، أعجب للطلب الذي انتشر بكلمة سرّ أن المطلوب هو “حكومة لستة أشهر مع صلاحيات إستثنائية” وأقول بالنيابة عن المنتفضين: إذا كانت حكومة، إن شاء الله، ناجحة وقد حققت جلّ طلبات الناس المحقّة، فلماذا أُرَحِّلُها بعد ستة أشهر؟ فلتَبْقى لتعمل بمزيد من التقنية والنجاح ووفقًا للأصول. فلتَبْقى الى ما شاء الله في هذه الحال.
إذا ماذا يريد الناس؟
نقولها صراحة وبكلّ مسؤولية: نريد “وزراء أخلاق”. فمن الطبيعي أن تقدّم المراجع المختصّة مرشّحين الى الحكومة من ذوي خبرة ما أو مهنة ما أو ممارسة بارزة ما. هذا تحصيل الحاصل. ومن المعيب الإعلان عن طلب ناس من ذوي “السمعة الحسنة”، هذا معيب لأنّه يجب أن يكون تلقائيًّا، في الوزارة أو في أيّ وظيفة.
أما المطلوب فالأخلاق أولًا ومن بعد ذلك… الأخلاق ثانيًا وثمّ أخيرًا. من هنا نحصر المطلوب بالقول: على الوزراء وخاصّة رئيسهم أن يكونوا مستقلّين فعلًا عن جميع الأطراف المتصارعة، الداخلية منها والخارجية وأن يكون لهم “مسامير في الرُكَبْ”، والأهمّ أن يلتزموا بالوصايا العشر. ومن الضروري التذكير أن قائمة الوصايا هذه ليست، في هذه الحال، قائمة تسوّق (Shopping List) أي أنّه لا يمكن لهم إنتقاء ما يحلو لهم منها وإهمال الباقي، ممّا هو غالٍ أو متعبٍ أو…، بل عليهم، ويستحسن أن يدلّ تاريخهم على ذلك، عليهم أن يلتزموا بها كاملة بما هي منظومة أخلاق. وفيها طبعًا: لا تكذب ولا تسرق ولا تقتل ولا تزني (بالمعنى السياسي خاصّة)، ولكن فيها أيضًا أن تكون محصّنًا إزاء مغريات الفاسدين ولديك مناعة طبيعية ضدّ الفساد، وهذه صفات تكمن في الجينات.
وبالتالي فيها: لا تفسد، ولا تنهب، ولا تهدر، ولا تهمل، ولا تحتال، ولا تُحَرِّض، ولا تخون، ولا تتآمر، ولا تبحث عن الصفقات ولا تخترعها، ولا… ولا… وكلّها في سبيل المصلحة العامة، والمصلحة العامة هي مصلحة عموم الناس.. وليست مجموع المصالح الخاصة. هذه قائمة الإلتزام يمكن القول بها: “كلّها يعني كلّها”.
هذه مواصفات لوزراء ولرئيسهم لن يجسُرَ أحدٌ على الإعتراض عليها أو حتى محاولة مخالفتها، لا في السراي الحكومي، ولا تحت قبّة البرلمان، ولا أمام قوس المحكمة ولا في المخافر ولا في المحافل الدولية (الحافل منها والـ ما حافل بعد!..)، وخاصّة ليس في الشارع.
تعالوا الى حكومة كلّ لبنان، بمناطقه وطبقات شعبه اللاطائفية وفئاته العمرية والجنسية وقدراته القيادية والمهنية وإختصاصاته المبدعة والخلاقة، الراشدة الرشيدة، الناظمة المنتظمة، كلٌّ في موقعه المنتج المفيد.
جرّبوهم.. هؤلاء لن يهتمّوا إلّا لأوجاع الناس وسيعملون على سدّ حاجاتهم، هؤلاء لن يفكروا إلّا بالصحّ. هؤلاء لا يعرفون النميمة، لن ينجرفوا لا وراء 8 ولا وراء 14، لا مع الكونغريس ولا مع الدوما، لن يأبهوا لأيّ تدخّل ساف… (يمكن لك ملء الفراغ بحرف الراء أو اللام أو بكليهما .. لا فرق).
أيّ كلام عن وزراء غير مستقلين من خارج منظومة الأخلاق الإنسانية المعروفة هو بمثابة إمعان في استمرار الأزمة حتى الإنهيار النهائي، لا سمح الله، لا بل هو إعادة تكوين الخلل بواسطة إعادة نثر بدار العلّة الأساس التي نعيش.
وأختم بتحذيركم أيها المنتفضين الطيّبين الصادقين: “إن حكامكم الأخلاق ما بقيت. فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذّهَبْتُم”، إنتبهوا ! هذا خطابي لكم في “يوم الإستقلال”.
(1) ـ والصدقُ أرفع ما اهتز الرجالُ لهُ. وخيرُ ما عوَّدَ إبنًا في الحياةِ أبُ.
وَإنَّما الأمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ. فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبوا. (أحمد شوقي)
(2) ـ مع التذكير أن الحكومة المستقيلة الحالية هي حكومة سياسية “بإمتياز” وتتضمن 5 أو 6 وزراء هم من التكنوقراط أو تقنيّين.
(3 ـ تعني كلمة تكنوقراط باليونانية تقني (تكنو) مع سلطة (قراط).