غريب وغزير ما فعلته الأيام بحياتي، وغريب وغزير ما فعلته أنا بأيامي. قضيت عصر يوم أمس ومساءه والليل الرابط بين يومين، قضيتها أفكر في مجمل الأيام منذ اليوم الذي قررت فيه الدولة المصرية تعييني في الهند ملحقا دبلوماسيا بسفارتها لدى عاصمتها، نيودلهي. جلست ونمت أفكر استجابة فيما يبدو أو خضوعا لآلة عاطفية هيمنت منذ اللحظة التي وقفت فيها عند الباب أودع ابني وبعض عائلته في رحلتهم عائدين إلى مقرهم الدائم في الولايات المتحدة. تعززت هذه الحالة في اليوم التالي خلال استقبالي البعض الباقي ليكتمل بهما مراسم توديع هذا الغصن من شجرة عائلتي الصغيرة، غصن نادر في نوعه وفي تناسق مكوناته.
***
فكرت أول ما فكرت في الصدفة الغريبة التي جمعتني بأمهم، شريكتي في غرس النبتة التي نمت حتى صارت شجرة. لم أتوقع يومها أنني بما طلبت من أبيها كنت في الواقع أطلب يد عشيرة أطرافها متناثرين بين مدينة فاس المغربية وبنزرت التونسية وعكا الفلسطينية وعاليا وبيروت اللبنانيتين ومنبج ودمشق السوريتين وتابعين أو متبوعين في دول إسلامية شتى مثل جزر القمور في شرق إفريقيا.
كان مطلبا لا يمكن رفضه أن نتوجه فور الزواج إلى موقع القيادة في مدينة عاليا شرق بيروت، للحصول على المباركة الضرورية من ثلاث سيدات تقدم بهن العمر وازددن تدينا ولم يتخلفن عن ركب الزمن.
***
جاء النجل ثمرة مبكرة لهذه المباركات. بدأ يبعث بنواياه وما يزال جنينا في بطن أمه. كدنا نفقده جنينا لولا براعة الأطباء الصينيين المشرفين على رعاية أمه. كدنا نفقده مرة أخرى عندما احترقت في بومباي الطائرة التي كانت تنقلنا من هونج كونج إلى القاهرة. مرت الأيام بنا وهو معنا ننتقل به إلى روما ثم سنتياجو ثم بيونس آيرس ثم إلى مونتريال ومنها إلى بيروت فالقاهرة.
***
هنا في القاهرة اختلفنا، أمه وأنا، حول مستقبله، وبصراحة أكثر حول مستقبلنا معه. كان لا بد من وجهة نظري أن أتيح له فرصة أن يدرس في الخارج ليتعلم أكثر. لم أحسب بالدرجة اللازمة حساب نية والدته أن تبقيه إلى جانبها ليستقر أمرنا مجتمعين كعائلة. هي نفسها، ولعله الدافع وراء رغبتها أن يبقى ابنها إلى جانبها، لم تنشأ في عائلة مستقرة الموقع. الأب من سوريا والأم من لبنان وإن كان بين أهليهما وشائج قربي عديدة مثل معظم عائلات بلاد الشام فضلا عن واقع عائلتها، أقصد عائلتنا، الصغيرة الذي هو أيضا لم يعرف الاستقرار في دولة بعينها ولا في مهنة واحدة ولا في بيئات اجتماعية وثقافية متشابهة أو متقاربة.
***
الحاصل أننا، هي وأنا، اختلفنا. فمثل أي شئ آخر تعلق بنشأة وتنشئة هذا النجل كان قرار إيفاده إلى الخارج لتلقي تعليمه العالي من أصعب ما واجهنا من قرارات. تصلبت في موقفي وقلبي لا يسامحني على ما أفعل وإصراري عليه بينما الدموع في عيني أمه لأيام عديدة لا تتوقف.
***
أعرف الآن، وبعد سنين وتجارب عديدة أنه من غير المفيد البكاء على ما حدث أو على ما لم يحدث في أيام خلت، وبخاصة إذا كان ما حدث قد أخذ وقته من الحوار والتفكير العميق والطويل حتى التوصل إلى رضاء عام. مع ذلك عشنا فترات حرجة، هو هناك يتعلم وينضج ويكتسب صفات وخبرات على أيدٍ، وفي أحضان، غريبة، ونحن هنا نتبادل عن بعد الإشفاق عليه من برودة الطقس وغدر بعض الناس وبعض الزمن، وحيث لا عائلة ممتدة أو صغيرة تمد أغصانها وفروعها لتحميه أو لتحنو عليه. ساعات عديدة في الليل كما في النهار نقضيها في مناقشة الإجابة عن السؤال: أيها أهم، غياب العائلة الممتدة أم وفرة الزميلات والمساعدات والجارات وبينهن واحدة، حسب أوهام أمه، لا شك تسعي جاهدة ومثابرة للاستيلاء على وحيدها الذي سبق وانتزعته من حضنها طموحات ومغريات مواصلة التعليم والارتقاء المهني.
***
سافر الجراح الكبير وعائلته الصغيرة عائدا إلى مقر عمله في الخارج. جاء ومعه نجلاه وأمهما وفتاة “أمريكية” صديقة للحفيد الأكبر لقضاء أسبوع معنا. عاد النجل ورب هذه العائلة الصغيرة بعد أن غابت أمه، غيبها القدر. أما شقيقتاه، وهما أيضا ربتا عائلتين، فقد شاركتا بكل جوارحهما في الترحيب بشقيقهما واستضافته، أغدقتا في الحب والاحتفاء وكأنهما استعارتا للأيام السبعة، مدة الزيارة، روح الأم الغائبة.
***
دارت الأيام وعادت برواية غير بعيدة في التفاصيل عن رواية كتبنا أو عشنا “أنا وأم العيال” فصولها الأولى قبل ستين عاما أو أكثر قليلا. فور وصولهم طلب الحفيد الأكبر من إحدى عمتيه مساعدته في تحقيق حلم عزيز وغالٍ. علقت على طلبه قائلا “هذا الحفيد نجل هذا الأب، والأب نجل هذا الجد، إنها حقا لشجرة مورقة وأصيلة!”.
أما الطلب فكان “أريد منك يا عمتي ترتيب قارب أو “فلوكة” مع سائقها ليلة الأربعاء، وهي ليلة يكتمل فيها قمر القاهرة. فليعرف المراكبي مسبقا أن في نيتي التقدم لصديقتي رفيقة الرحلة النيلية بعرض زواج، وهي بالمناسبة تنتظره ولكن ليس على هذا النحو. وبالمناسبة أيضا أتمنى أن يكون لدي المراكبي جهاز يبث موسيقى مناسبة للحالة. أريد منك أيضا اصطحابي قبل الرحلة إلى جواهرجي لشراء خاتم خطوبة يليق بمكانتي المقبلة كمحامٍ ذائع الصيت بالتأكيد ورجل متعدد المواهب الطيبة كما تمنيت أن أكون”.
***
رأيت في عيون الأم دموعا لعلها من دموع الفرحة ولعلها من دموع الفزعة، فزعة ابتعاد ابنها البكري عنها ليتزوج بعد ابتعاد أول ليدرس ويعمل ثم ابتعاد ثانٍ نحو مقاعد الدراسة ليزداد مقدرة و”سعرا” حسب منظومة القيم الأمريكية. بحثت عن والده، نجلي العزيز، لأرى في عينيه ابتسامة أعرفها جيدا، ابتسامة الفوز والإنجاز.
***
سافروا جميعا إلى وحشة الغربة، وبقيت وحدي في بيتي أجتر سعادة أيام عشتها من زمن ولى، وأجتر معها سعادة أيام حلوة أعيشها للتو واللحظة، وأحلم بسعادة لا شك تنتظرني لأعيشها في قادم أيامي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق