طلال سلمان

حكاية حب على النيل

عزيزي: عدت إلى بيتي بعد رحلة رائعة قضينا أغلب أيامها فوق النيل وعلى ضفافه. أنا واثقة من أنك تستطيع تقدير ما أحس به الآن وأنا في بيتي بعد هذه الرحلة. تعرف بيتي ولعلك تذكر تفاصيله من الداخل وتفاصيل الخارج الذي تراه من وراء نوافذه المطلة على القنال الإنجليزية. عشت كل أيامي أتجنب الابتعاد عن البيت في رحلات بعيدة. إذا ابتعدت غلبني الشوق إلى هذه التفاصيل فأعود إليها على وجه السرعة لأعيش في أحضانها سعيدا  بمزاج هادئ ونفس راضية. لم يبهرني مكان حتى صرت أفضله على بيتي فأتمنى العودة إليه حتى جاءت الرحلة التي دعوتنا للقيام بها. تغيرت خلالها  وتغيرت معي أشياء كثيرة. يصعب الآن أن أحدد بأي درجة من الدقة كيف وأين ومتى بدأت أنا وأشيائي نتغير؟. تعالى معي نبحث عن نقطة نبدأ عندها فالحديث قد يتشعب إذا رحلت وحدي بعيدا.

بدأت حكايتنا بيوم ألقيت محاضرتك في الجامعة التي كنت أدرس فيها  التاريخ وبخاصة الجزء منه الذي تخصصت فيه وهو تاريخ مصر القديمة.  يومها وبعد المحاضرة والنقاش الممتع الذي أعقبها طلبت من رئيس الجامعة  الاجتماع بكل الطلاب الذين اختاروا تاريخ مصر الفرعونية تخصصا ومهنة  وترف حياة.

رأيت وأنت الأستاذ أن رصيدنا من قراءاتنا في المراجع الأوروبية والأمريكية  وفي الحفريات المصرية واليونانية والرومانية ومن زياراتنا المتكررة للمتاحف الكبرى ومن محاضرات الخبراء والمولعين بالتاريخ القديم ومن سير الأنبياء وأصول الكتب المقدسة جميعها بدون استثناء، أقول رأيت وأنت الأستاذ أن هذا الرصيد على شموليته وجودته الأكاديمية لا يغني عن زيارة المواقع  الأصلية لهذا التاريخ. ففي زيارة هذه المواقع يمكن للطالب أو الخبير  المتخصص أن يختلط إنسانيا برجال ونساء يعيشون في مواقع عاش فيها المصريون القدامي. هؤلاء يعيشون على ضفاف النهر نفسه ويركبون قوارب تمخر عبابه ويسكنون بيوتا أغلبها من الطمي نفسه الذي فاض به النهر وخلّفه وراءه وراح ينحسر عن الضفاف ليعود إلى مجراه. هؤلاء الناس شيدوا على أطراف النهر قراهم، وفي وسطها أقاموا مساجد وكنائس محل معابد شيدها الأولون، ثم اختاروا من بينهم من وجدوه صالحا أو أعلن عن نفسه صلاحيته للتبشير بعقيدة زمانه. وفي نهاية الاجتماع وجهت لنا الدعوة لزيارة مصر وتعهدت بتنظيم الجزء الخاص بك من الرحلة لنحصل على أقصى فائدة وأوفر خبرة ووعدت بأن تخصص لنا مرشدا من أبناء صعيد مصر أكثرهم ارتباطا بتاريخه القديم وأقدرهم على تجسيد الشخصية المصرية في كلا العصرين، عصر القدماء والأنبياء والعصر الذي يعيش فيه.

عزيزي الأستاذ.. يسعدني ويمتعني أن أنقل لك من مفكرتي نتفا مما كتبت خلال رحلتنا في صعيد مصر، في قلب مصر القديمة. جعلتنا خلال الرحلة  نتخيل أنفسنا نعايش مصريين قدامى قمنا معا باستنساخهم، هدفنا الذي أوحيت لنا به أن نتعرف على أوجه حياة المصريين في الأزمنة القديمة وعلى أنماط تفكيرهم وعلى علاقتهم بالنهر والسماء. نعيش معهم بعض أحلامهم عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى.

•••

كتبت في مفكرتي “استيقظت على رنين هاتف غرفة نومي. لفت انتباهي قبل أن أرحب بالمتكلم أن لا وجود لصوت محرك الباخرة التي نبيت فيها. عرفت هوية المتكلم من صوته وهو يتمنى لي صباحا خيرا ويوما ممتعا. سألته عن صمت محرك الباخرة قبل أن أسمع تفسيرا ثم تبريرا لهذه المكالمة في هذا الوقت المبكر، أجاب بصوت منخفض، لقد وصلنا إلى مرفأ المعبد عند الفجر. وكالعادة ومع الشروق رفض القبطان إزعاجكم وكلفني بهذه المهمة باعتبار أنني المرشد الجديد المخصص لمرافقتكم وإرشادكم بقية أيام الرحلة. يومنا طويل ومن مصلحتنا أن نكون في المعبد قبل وصول وفود السائحين وتلاميذ المدارس. هيا اخلعوا ثياب النوم واستعجلوا واجبات الحمام وارتدوا ملابس سهلة لا تعيق صعودا متكررا أو وقوفا طويلا أو مشيا فوق رمال ناعمة وصخور مدببة. نلتقي بعد عشرين دقيقة في المطعم. حمدا لله على سلامتكم وتمنياتي برحلة موفقة”.

•••

ثم كتبت “أعترف أنني شعرت برعشة هزت كياني في اللحظة التي وطأت فيها قدماي مدخل المعبد. أظن أن وجهي اكتسى بالشحوب وأن قدماى كادا يخذلاني فمددت يدي نحو الحائط لأستند عليه فلا أقع. أخطأت في حساب المسافة التي تفصلني عن الحائط. لم أعرف أنني أقع إلا عندما وجدت نفسي بين ذراعي المرشد. لا أدري كيف وصل إلى حيث كنت أقف أستمع إلى حكاية يرويها عن النحات الذي نحت اللوحة التي ازدان بها الجدار.   يبدو أنه قفز من بعيد ليحتويني بين ذراعيه قبل أن أقع على أرض المعبد. فتحت العينين وهو يحملني لأرى وجه إنسان في لون ولمعان الوجوه المنحوتة على الجدار. جرب أن ينزلني لأقف على قدماي فأدركت كم طويل هذا الرجل طول الفرعون المنحني في اللوحة تعطفا وحنانا على امرأة كانت جاثية تحت قدميه تصلي له أو تسبح بحمده وكرمه عليها.

كم هو جميل رأس الفرعون وكم هو جميل رأس “عزيز” المرشد. عيناي رفضتا التخلي عن النظر إلى الفرعون إلا للنظر إلى المرشد والعودة للفرعون. ثوان مرت بطيئة مرور الزمن في الذكريات. تمنيت أن تزداد بطئا وأن أبقى معلقة في رقبة “عزيز”. كنت ما زلت بين حال الإغماء واليقظة حين وصل صوته ملفوفا في أنفاس دافئة إلى أذناي القريبتين من شفتيه وهو يقول بصوته الفرعوني الخشن، اتركوها لي. لن أتخلى عنها. لن تسقط. هي في رقبتي. ثم خرج بي من وسط المجموعة ومشى نحو ركن في المعبد غير بعيد فجلس على حجر عال علو كرسي العرش الذي يجلس عليه فرعون وأنا مستلقية في حجر لا أتمنى غيره لبقية أيام الرحلة مكانا أرتاح فوقه وأنام فيه”.

•••

أنقل أيضا من مفكرتي “كنا، أعضاء الرحلة، نصعد كل ليلة بعد تناول العشاء إلى سطح الباخرة، نستلقي في مقاعد مثل مقاعد الشواطئ المتمددة، نراقب النجوم المتلألئة حقا وليس من باب التجمل الإنشائي في الكتابة. أحيانا كانت النسائم المعتدلة تتمرد فتبرد. يبدو أن مرشدنا اعتبر من بين مهامه المتعددة الإعلان عن انتقال النسائم إلى مرحلة البرودة، وأن النجوم المتلألئة تزداد تألقا وجمالا إذا تأملناها ونحن على ظهورنا متمددين، الأمر الذي يستدعي، حسب رأيه، إحضار وسائد وبطاطين من مخازن الباخرة . لم يتذمر أحد في المجموعة في الليلة التالية والليالي اللاحقة لغياب الكراسي. كنا نصعد فور الانتهاء من تناول العشاء إلى السطح  لنفترش الوسائد أرضا ونتغطى بالبطاطين. كنت سعيدة بما اكتشفه عزيز: “نقصا في عدد البطاطين التي يحضرها من مخازنها، ووجد الحل في أن يحاول كل اثنين مشاطرة بطانية. لم يأت لنفسه بواحدة لكونه لا يبرد. كنا نبرد وآخرنا في الشكوى المرشد سليل الفراعنة الذي تفاخر في الليلة الماضية بأنه لا يبرد. لا تمضي من رحلة الليل ساعة إلا وتزداد برودة نسائم الليل. تمضي ساعة أخرى وينضم المرشد الفرعوني هيبة والفرعوني جمالا ليشاطرني بطانيتي الصغيرة استجابة لدعوة مني، دعوة صادقة ومستحقة”.

•••

أستاذي.. الشكر، كل الشكر لك. بفضلك وتحت رعايتك زرت بعض أهم معابد مصر. أعود إلى بلدكم عاما بعد آخر. أعود إلى نهركم ونسائمه الباردة وإلى أحضان رجل أسمر وقعت في حبه.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق 

Exit mobile version