طلال سلمان

حريري في واشنطن مهمة مستحيلة ولكنها كاشفة

على أهمية »الخبر« في أن يلتقي الرئيس الأميركي رئيس حكومة لبنان، في توقيت استثنائي، فإن الأهم هو أن يستطيع رفيق الحريري توظيف هذا اللقاء لخدمة قضية بلاده، قبل مصالحها، وأن »يقول« ما يبرر اللقاء فلا يكرر ما قاله الضيفان العربيان اللذان سبقاه إلى واشنطن، خصوصا أن ليس للإدارة الأميركية (الجديدة كما القديمة) من »الدالة« عليه و»الروابط« و»الارتباطات« مثل ما بينها وبين الرئيس المصري والملك الأردني.
إن رفيق الحريري لا يذهب ليطلب مساعدات أو قروضا، ولا سيما أنه يعرف أنه حتى لو طلب فلن يلبى طلبه (وتجربة مؤتمر أصدقاء لبنان في واشنطن ما تزال، بالتأكيد، ماثلة في ذهنه، لا هو ينساها ولا الناس ينسون)…
وهو لا يذهب طالبا الرعاية أو الشفاعة الأميركية »لإقناع« إسرائيل بعقد اتفاق منفرد مع لبنان، أو حتى لممارسة نفوذها على شارون »لإجباره« على العودة إلى مؤتمر مدريد وإنجاز »العملية السلمية« التي قتلتها إسرائيل بالضربة القاضية منذ سنوات، وعلى »جثتها« جاء نتنياهو وبعده باراك من قبل أن يفتح الباب أمام الجنرال السفاح.
كذلك فهو لا يذهب ليطلب حلاً لمسألة الوجود الفلسطيني في لبنان بإعادة هذا الشعب المشرد إلى أرضه في وطنه، تلافيا لخطر التوطين الذي أثار »عنصرية« اللبنانيين وكاد يوحدهم على خطر وهمي على حساب تنبههم إلى الخطر الإسرائيلي، وهو جدي جدا وداهم وألسنة نيرانه طاولت وتطاول مرافقه والمنشآت العامة… ثم مواقع القوات العربية السورية في لبنان.
ثم ان رفيق الحريري لا يذهب إلى واشنطن من خارج الموقف اللبناني السوري المشترك، والذي بلغ ذروة الصراحة إلى حد القسوة في التعبير عنه خلال الأسبوع الماضي، وقد تخطى تأكيد هذا الموقف الوسائط والأساليب الدبلوماسية، فجهر به رئيسا الدولتين علنا… بل إن دمشق وصلت إلى حد نشر تفاصيل المكالمة بين رئيسها وبين الرئيس الأميركي حتى لا تترك مجالاً لأي التباس أو سوء فهم أو سوء تقدير.
لقد اختار رفيق الحريري، مرة أخرى، أن يمارس دورا يحبه وهو التصدي لمهمات تبدو مستحيلة، متحملاً أن يسيء البعض فهمه، والمهمة حمالة أوجه، كأي مغامرة سياسية، مفترضا أو مقتنعا بأنه يكفيه أن ينجح ولو في استكشاف الطريق، وفي إسماع منطق مختلف يندر أن يسمعه سيد البيت الأبيض من زائر عربي.
على هذا فالمهم ليس اللقاء بذاته بل ما سيقوله الوافد اللبناني فيه.
ولأن الحريري ليس في موقع (ولا في حرج) الضيفين العربيين اللذين سبقاه إلى واشنطن،
ولأن استقباله يشكل »خروجا« على التقليد الأميركي المتبع في استقبال »الأصدقاء العرب«..
ولأن تجربة لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي مختلفة في سياقها ثم في خاتمتها المميزة عن تجارب سائر العرب،
ولأن الحريري يعرف حقائق الوضع من خلفه، ويستطيع التخمين كم ستكون »المحاسبة« على اللقاء قاسية، في الداخل والخارج،
لكل هذا فأبسط الافتراضات أن يفيد الحريري من فرصة اللقاءات مع الرئيس الأميركي وكبار رجال إدارته الجديدة ليسمعهم ما »تعذر« عليهم أن يسمعوه مباشرة في بيروت التي استثناها جنرال الخارجية من جولته العربية الأولى (التي اتسمت بالطابع الحربي أكثر مما بطابع الاستكشاف، خصوصا وقد سبقتها و»مهدت« لها الغارة على العراق).
ويستطيع الحريري أن يوظف نصر لبنان المقاوم على الاحتلال الإسرائيلي، وقد غدا قدوة ومثالا للمحتلة أرضهم من العرب، لا سيما في فلسطين الانتفاضة، لكي يبين للمسؤولين في واشنطن ان التماهي بين موقفها ونهج التطرف المدمر الذي تعتمده إسرائيل الشارونية ألحق وسيلحق أفدح الأضرار بالمصالح الأميركية، وهو قد أحرج وقد يخرج الكثير من أصدقاء واشنطن في المنطقة العربية (بينهم الضيفان العربيان اللذان سبقاه، عملاً بالتقليد!! الى لقاء الرئيس الأميركي الجديد).
وليس أمراً تفصيلياً أن يكون هذا البلد الصغير الخارج من حروب داخلية مدمرة، والذي صمدت وحدته لارتجاجات سياسية قوية مبعثها الخلاف على طبيعة النظام ومواقع مختلف الأطراف فيه، بكل الحساسيات الطائفية والمذهبية التي تغلفه، قد نجح في أن يقدم نموذجا فذاً في المقاومة المنتصرة على »أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط«.
كذلك يستطيع الحريري أن يستشهد بتجربته الشخصية في الحكم ليدلل على أن المقاومة في لبنان لم تعطل ولم تمنع إعادة بناء البلد المدمر بالحروب والفتن، بدليل أن حكوماته قد استطاعت اقتراض (ربما بأكثر مما يجب) وما تزال تستطيع اقتراض المزيد (والاكتتاب الاخير شاهد).
أما المصاعب التي عاشها ويعيشها لبنان فالأثر الاسرائيلي فيها واضح كما… نور الكهرباء (وهي ما تزال تخضع للتقنين في انتظار اصلاح أضرار الغارات المتوالية التي استهدفتها).
والمؤكد أن رفيق الحريري لن يتحدث وكأنه جاء »ليفاوض« باسم لبنان، بل ليُسمع صوته وليعرض قضيته التي هي بعض القضية الأصلية، أي الصراع العربي الاسرائيلي، بعنوانه الفلسطيني الصريح.
ثم ان رفيق الحريري لن يترك أحدا يتوهم في واشنطن أنه »موفد لبناني، ولكنه مفوض بالنطق باسم سوريا«… وإن كان مؤكدا أنه سيعرض ما تعرفه واشنطن عن رسوخ هذه العلاقة المميزة بين بيروت ودمشق، التي بعض وجوهها الوجود العسكري السوري (الضروري والشرعي والمؤقت) في لبنان، والذي يلقى بعض المعارضة السياسية بينما الاكثرية تطالب بإدامته حتى إشعار آخر، كما قال »الشارع« في بيروت.
أما المقاومة ودورها فلن يذكرها الحريري في واشنطن إلا بالتقدير وبالتأييد المطلق، فالخلاف الذي شجر مؤخرا حول »التوقيت« محدود وقد »بات خلفنا« كما قال في بكركي التي لا ترى رأيه ولكنها تسلم بشرعية موقعه داخل اطار الدولة التي لم يفكر ولن يفكر البطريرك الماروني بالخروج منها أو عليها.
إنها »رحلة استكشاف« قد تفيد في »تقدير المواقف«، ضررها على صاحبها ونفعها مهما كان محدودا للجميع، في لبنان وفي سوريا على حد سواء،.. فلا هي خروج على مبدأ »تلازم المسارين«، ولا هي «تفرد«.
وطالما أن ليس من رهان عظيم على النتائج، فالحكم لها أو عليها متروك لما بعد العودة، وإن كان المنطق السائد هو: إن كانت لا تنفع فهي لا تضر«…
والله أعلم!

Exit mobile version