طلال سلمان

حراك عند حارة الناعمة

الطائرة لم تكن كما عودتني أن تكون. المقاعد بدت غير مرحبة. المضيفات لسن كالمضيفات اللاتي عرفتهن خلال سنوات علاقتي بهذه الشركة. أرشدتني إحداهن باهتمام متردد إلى مقعدي في الصف الثالث. كانت الطائرة ما تزال تختال على أرض المطار ساحبة ذيلها عندما عثرت على سبب قلة اهتمام المضيفة بي وبركاب غيري. تربصت لنظراتها أرصد هدفها. جلس في الصف الثاني سيد وسيدة. السيد يلقي عظات على السيدة هامسا حتى لا أسمعه باعتباري الراكب الأقرب لهما. سألت وعرفت. عرفت أن السيدة مطربة شهيرة والسيد مدير أعمالها. عرفت أيضا أن الرجال الأربعة الذين احتلوا الصفين الأول والثاني على الجانب الآخر من الطائرة خبراء مصارف، هم أيضا من المشاهير. خمنت أن السيدة لبنانية مشهورة كانت في القاهرة لترتيب يتعلق بحفل رأس السنة. خمنت أيضا أن المصرفيين، وكلهم غاضبين، كانوا يبحثون في مصر مع زملاء دوليين عن إجراء يؤجل نشوب أزمة مالية على وشك أن تضرب لبنان خلال أيام، أم لعلها ضربته بالفعل وما التقشف الذي لاحظت على مكونات الإفطار سوى مؤشر له مغزاه، فالطائرة تعود ملكيتها، كما تفضل العارفون وأبلغوني، إلى البنك المركزي اللبناني الذي بدأ يعاني عجزا فاضحا نتيجة الحراك الناشب في مختلف مناطق الدولة.


كثيرون فاتتهم في حياتهم فرصة الاستمتاع بغرائب المظاهرات. لم أشارك في واحدة منذ كنت طالبا بالمدرسة الثانوية ولكني اتخذتها هواية. تابعتها في الدول التي كانت حكوماتها تسمح لأصحاب المظالم بالتعبير عن مطالبهم بالتظاهر السلمي وتصادف وجودي فيها. الآن نعيش عصرها الذهبي. أتخيل أحيانا أنه ما من لحظة في التاريخ تتشابه واللحظة الراهنة من حيث حجم الجماهير المتحركة. ففي كل اتجاه وفي أي بلد يقابلك حشد يتظاهر لمناسبة سعيدة أو يسد عليك طريقك حشد غاضب. وعلى صدارة الصفحات الأولى في صحيفة الصباح ينتظرك خبر عن حشود بآلاف تتحرك صوب هذه الحدود أو تلك هربا من قمع أو سعيا وراء رزق. ما اختليت في الأسابيع الأخيرة بشاشة تليفزيون إلا وشدتني مظاهرة، هوايتي المفضلة. هذه مظاهرة ارتدى المتظاهرون لها صديريات صفراء ومشوا يجوبون الشوارع الأهم في العاصمة الفرنسية، وهذه مظاهرة في مدينة أعشقها والفقر دافعها وكان دائما مخيما عليها، سنتياجو الرقيقة الوديعة. وفي لاباز ومدن أخرى في بوليفيا مظاهرات منذ أن قرر ائتلاف مصالح دولية معروفة انتهاز فرصة إجراء انتخابات رئاسية للإطاحة بالرئيس ايفو موراليس. وفي هونج كونج والجزائر مظاهرات تحدت بطول البقاء والاستمرار فهم الحكماء والمتخصصين. تفاعلت مع هذه المظاهرات وغيرها بالتعاطف مرة والفضول مرات لكن لا واحدة منها حركت في ذهني كل الفضول وكل التعاطف في آن مثلما حركت مظاهرات لبنان.


وقفت على بعد أمتار أراقب وأسمع ثم جلست. كنت قبل عدة شهور في لبنان أجلس في نفس المكان. كان المنظر مختلفا. الوجوه كانت مكتئبة على غير عادة نزلاء هذا المكان وعادة اللبنانيين بشكل عام. تحدثت مع عدد غير محدود وزرت أصدقاء في مكاتبهم القريبة وبعدها درت في أنحاء الساحات قبل أن أعود إلى قلعتي ومساحة اطمئناني في رأس بيروت والحمرا تحديدا. هناك قابلت الصديق طلال سلمان مودعا على فنجان قهوة ومستسلما لسحابات لا تنتهي من دخان سجائره. أذكر أنني قلت له، وكان ابنه أحمد، القريب جدا إلى نفسي، حاضرا، “أغادر بيروت هذه المرة وحزن غريب يصر أن يرافقني”. لم أزد أو أتطرق إلى تفاصيل باستثناء إشارة عن أزمة في لبنان أراها تتقدم بسرعة من على بُعد داكنة وخبيثة. لم أدر وقتها أي شكل سوف تأخذه. رأيتها من بعيد ولكن كانت أيضا على وجوه الناس في المقهى القريب من الساحات وعلى رصيف الحمرا وعلى واجهات مغلقة لمحلات عرفتها لعشرات السنين لا تخلو من زبائن، أو وهو الأشد إيلاما ودافعا للحزن، على واجهات محلات لا تستحق شرف أن تكون بالحمرا، محلات حلت محل أخرى، وأرصفة غصت بالمتسولين والمنكوبين وذوي العاهات. لم أقل لهما أنني رأيت في هذه الزيارة شعبا استسلم سياسيوه وتخاذلوا، وبعضهم لا يخفي اعتماده على متدخل أجنبي موثوق به لن يتخلى عنه إن وقع مكروه له أو لحزبه أو عائلته أو ممتلكاته المالية والعقارية. أغلبهم على كل حال خانوا عهدهم للطوائف التي يقودونها. بعضهم هرّب إلى الخارج مال الدولة والطائفة.


وقع المكروه. انتفضت جماهير اللبنانيين ضد السياسيين. سيطر الفضول حاجبا عني اهتمامات عادية ويومية ومهيمنا فلا حس أو خبر له أهمية باستثناء مظاهرات في بيروت وعلى غير العادة في مناطق لبنانية أخرى. تدافعت على ذهني الأسئلة. سؤال يزيح سؤالا ولا إجابة جاهزة عندي على أي منهما أو غيرهما من الأسئلة المتدافعة. غريب أمري. كنت هناك وتوقعت نشوب أزمة حكم ومجتمع ونظام فكيف وقد نشبت الأزمة، أقع ضحية فضول بلا حدود؟. لم أهنأ بلحظة هدوء واحدة على امتداد الأيام الأولى للثورة في لبنان. لم أعتاد على ثورات تنشب في عالمنا العربي وتستمر أياما بل أسابيع ويبقى ذهني ملبدا بالحيرة، حيرة الباحث عن الحقيقة. لماذا لبنان استثناء؟. دأب السياسيون اللبنانيون على أن يظهر لبنان أمام الدول العربية كيانا متفردا ونبتا استثنائيا في محيط عربي. أصروا منذ البدء أن يكون للبنان موقع خاص في ميثاق جامعة الدول العربية، وفي مؤتمرات القمم الإسلامية، وفي العلاقات الإقليمية مع التكتلات الكبرى في العالم. كل العرب تمسكوا برفض الطائفية واعتبروها تهديدا مباشرا لوحدة الدولة العربية المستقلة وحديثة النشأة، إلا ساسة لبنان. تغيرت قيادات جميع أحزاب لبنان ومكانتها في خريطة المكانات والهيبات ولم يهتز صمودها المستميت في الدفاع عن النظام الطائفي. صمد النظام الطائفي في وجه إعصار القومية العربية حين لم تصمد أنظمة أخرى. صمد أيضا في وجه عولمة ضربت هويات عديدة بل لعله اكتسب في العولمة ومنها مناعة وقوة مضافة.


ساد الظن لفترة أن أهل الشيعة في لبنان الذين تصدروا مسيرة العروبة في سنوات صعودها وقادوا حملات دعم الفلسطينيين ومقاومة التوسع الإسرائيلي لن يتمسكوا بالنظام الطائفي واثقين من نسبتهم العددية ومن ضعف الطوائف الأخرى ومن شعبية حققوها على مستوى الإقليم العربي. أقول كان الظن. أقولها متعمدا منذ أن وجدت، وباندهاش كبير، أن سياسيين محسوبين على قيادة التيار الشيعي اللبناني يتصرفون خلال الأيام الأولي للثورة اللبنانية تصرفات جعلت منهم موضوعا لسؤال من الأسئلة الصعبة التي أصابتني بالحيرة وفرضت حالة الفضول. وصلني من لبنان قبل السفر ما يفيد أن شعبية كان يحوز عليها قيادة هذا التيار تنحسر وبمعدل متزايد. بلغني هذا الرأي أو المعلومة والثورة في أيامها الأولي. بعد أيام أخرى، وكنت قد انتقلت بنفسي إلى هناك، رأيت كلمة الثورة في الخطاب العام ومعسكرات الاعتصام وبين دعاتها وحاملي شعارتها تنحسر لصالح كلمة الحراك. الثورة تعني أن التغيير يمكن أن يشمل في عمقه وامتداداته جوهر العهد أما الحراك فيجعل التغيير مقصورا على شكل العهد في مرحلته الراهنة.


طائرة العودة تكاد تخلو من الركاب. كان معى مصريون وأجانب ولا مشاهير بينهم. سمعت ليلة سفري من بيروت من ينقل عن أجنبي أنه تلقى من سفارة بلاده نصيحة بالاستعداد للرحيل مع عائلته إذا تدهورت الأمور. الأمور، حسب رأي حكيم لبناني، تتدهور في ثلاث حالات. تتدهور في حال لم تصل المعونة عاجلا من دول غربية وعربية وربما من دولة جوار بموافقة مكتومة من الولايات المتحدة، وتتدهور ثانيا في حال استمرت القوة السياسية المهيمنة حاليا ترتكب أخطاء سياسية جوهرية خلال محاولتها إعادة تكييف الوضع السياسي بما يضمن لها استمرار الهيمنة. وتتدهور ثالثا في حال تدخلت قوى غير شرعية من داخل الحدود أو من خارجها، تغتال وتزرع متفجرات وتنشر الرعب. وهذه حسب ظني جاهزة للعمل فور إشارة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version