مع اقتراب موعد إلقاء كلمتي عدت، كعادتي، أتفحص القاعة مرة أخيرة. أردت دائما الاطمئنان إلى أن مزاج الحاضرين يناسب روح خطابي الذي أعددت، أردت أيضا التعرف بصفة خاصة على وجه شخص أتبادل معه الاهتمام فلا يتوه البصر ويتشتت التركيز. كانت الإطلالة على القاعة كافية لأعرف أن النساء حاضرات بنسبة أقل مما توقعت وتوقع منظمو المؤتمر، وكانت كافية لاستخلص أن عددا معتبرا من الرجال احتشد في شكل قوة مناوئة لتوجهات غالبية المتحدثين وغالبية النساء.
شئت أن أقدم نفسي لجمهور بعضه، وربما أغلبه، لا يعرف الكثير عن علاقتي بموضوع المؤتمر. استأذنت رئيس الجلسة ومن خلاله الضيوف أن أبدأ بعرض مؤهلاتي لخوض تجربة التحدث في تمكين المرأة ، موضوع هذا الاجتماع . قلت “يا سيادة الرئيس، أنا مؤهل للجلوس على هذه المنصة لمخاطبة هذا الجمع الكريم والتحدث في موضوع هذا المؤتمر. مؤهلاتي التي شجعتني على خوض هذه التجربة ثلاثة. الأول حصلت عليه حين أقدمت قبل حوالي ربع قرن على تنظيم مؤتمر موسع انعقد هنا في هذا البلد المحافظ للغاية. وقتها كان المتحمسون لفكرة تمكين المرأة لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة وبينهم رئيس الدولة وحرمه.
أحمل المؤهل الثاني منذ أن انتسبت في مصر إلى مؤسسة قضايا المرأة عضوا في مجلس أمنائها. رأيت بكل الفخر المتاح والإعجاب الممكن شبابا متطوعا من الفتية والفتيات يجوب المحاكم باسم هذه المؤسسة ويدور على البيوت في عشوائيات مصر يستعيد لنساء حقوقا مسلوبة أو يمسح بكفوفه فوق جباه تعقدت تجاعيدها تحت ضربات الظلم والتقاليد والجهل. سمعت وقرأت تقارير هذا النفر من الشباب عن حيوات جديدة لفتيات قصر جرى اغتصابهن وتنكر لهم المغتصبون وأهاليهن وأقسام الشرطة بل وفي حالات كثيرة تجاهلهن المجتمع ورجال الدين من أهل الحي.
أما ثالث المؤهلات التي حمستني للمجيء إلى هنا والتحدث في هذا الموضوع الملتهب، فهو حبي للمرأة. أقولها مدوية. لم يعلمني أحد معنى الحب ومضمونه. لم أتدرب على تبنيه أو ممارسته، خلقنا معا من أم واحدة وفي يوم واحد”.
“سيدي رئيس الجلسة. أقرأ كثيرا في بلدكم وفي بلدي وبلاد أخرى عديدة عن قوانين تصدر بالعشرات بهدف تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة. واليوم اطلعت على إحصائيات تؤكد أنه في مؤسسة حكومية بعينها صارت المرأة بفضل جهود تمكينها تحتل 66 % من وظائفها وفي مؤسسة أخرى احتلت 75 %. هنا أتوقف لأجدد قناعتي بأن كل إنجاز تحققه المرأة يجعلني رجلا أسعد. ولكني وقد اطلعت على تقارير بعضها يبعث بإشارات واضحة عن صعوبات طرأت في مواقع عمل وزيادة مقلقة في حوادث التحرش وأرقام مزعجة عن ممارسات العنف الأسري أعود فأحذر من المبالغة والتمادي في صنع التطور المنشود. حذرت، أو بمعنى أدق، نقلت تحذير امرأة عصرية ووقورة وتحتل منصبا رفيعا في شركة أمريكية عملاقة. قالت أحذركم، يا أصحاب النوايا الحسنة من المبالغة في إصدار تشريعات توسع من مضمون فعل التحرش. قالت، فيما أذكر، ما معناه أن أجواء العمل في كثير من الشركات والإدارات الحكومية أصبحت لا تطاق. انتهى، في نظرها، عصر المجاملات الرقيقة بين الرفاق في العمل. صار الجو كئيبا والنزاعات تنشب لأسباب واهية والشكوك المتبادلة تزكم الأنوف. قالت، من فضلكم لا تبالغوا ولا تتمادوا”.
“أنا الآن، ومن فوق هذا المنبر وفي حضور ناشطات ووزيرات يحملن مسؤولية الوصول بالتمكين إلى أقصى الممكن، أوجه تحذيرا ثانيا. لا أدعو ولن أدعو إلى وقف جهود تمكين المرأة، ولكنى أدعو إلى ترشيد الجهود. أقولها صريحة، احذروا غضب الرجال. أنا من هؤلاء فأنا بالتالي أعرفهم جيدا. أنا وأنتن قضينا بعض نهار يومنا هذا نشاهد نماذج شديدة التهذيب من غضب ذكوري ناعم. سمعنا اليوم وقرأنا على امتداد شهور تقارير عن صعوبات أكثر في العمل، عن منافسة غير مشروعة، حسب رأي بعض الرجال، بين النساء والرجال على وظائف محدودة. يتهمون الدولة بإرضاء دول الغرب ومؤسساته الدولية بالتغاضي عن قواعد التعيين في الوظائف الكبرى لصالح النساء. حتى ازدحام المرور ووسائل النقل وتدهور تعليم الأطفال وتراجع التزامهم الأخلاقي صارت مع تدهور الحياة المنزلية وانحسارات أخرى من عواقب تمكين المرأة”.
“أقول للناشطات لا تبالغن في قوة المرأة ودهائها وحنكتها وفي الوقت نفسه الاستهانة بدهاء الرجل. وأقول للمسؤولين والمشرعين والمؤسسات الدولية لا تبالغوا في تسريع التمكين فالرجال متربصون. وأدعو النساء أن يحذرن كيد الرجال فكيدهم إن خفي عليكم فعظيم. كلكن، أو الأغلبية فيكن، تشكو من إهمال متصاعد من جانب الرجل في الاهتمام بشؤون الأسرة وبخاصة تربية الأطفال. الشكوى أيضا عارمة من الاستغراق المتصاعد من جانب الرجل في ممارسة السوشيال ميديا. يتردد بشكل ملحوظ أن العلاقات بين النساء والرجال عموما أصيبت بالتوتر سواء عند استخدام الخدمات العامة أو في الحياة الخاصة. أسمع من أصدقاء وباحثين أن الشبان يعزفون عن الزواج بنسب متزايدة بسبب أسبقية تسكين الخريجات وقضاء الشبان فترة في الجندية. أضف الزيادة المتصاعدة في هجرة الرجال واغترابهم بالسفر أو بالانعزال. أهو الكيد بالنية المبيتة أو سلوكيات بطعم الكيد؟”
أحذر من إضافة المزيد إلى مشاق المرحلة الانتقالية التي نمر فيها. أعرف عن ثقة بأن نسبة غير بسيطة من أبناء الجيل الجديد، وغير الجديد، يعيش حالة جفاف عاطفي. أسباب الحالة عديدة، وبينها كما يقول خبير أعرفه، الشعور بالغبن. أحذر أيضا من تجاهل واقع جديد جاري صنعه في معامل الإبداع والذكاء الصناعي. هناك صنعوا بالفعل نساء بمقاس وطلب “الزبون”. رأينا على الشاشات نماذج، نساء يتكلمن بذكاء خارق أو لا يتكلمن إلا بالأمر، نساء مدربات على المداعبة والملاعبة ونساء يصلحن ربات بيوت. أقول للصديقات والناشطات في مجال تمكين المرأة لا تبالغن أو تتسرعن فكيد الرجال ككيدكن عظيم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق