طلال سلمان

حديث عن مظاهرات الاحتجاج.. رومانسية الماضي وتعقيدات الحاضر

في شيلي وفي لبنان جماهير تحتج في الميادين والشوارع كل بطريقتها، وفي فرنسا جماهير تخرج إلى الشارع لتحتج وتخرب قليلا وتغيب ثم تعود، وفي الجزائر الجماهير لا تترك الاحتجاج في الشوارع إلا لتعود إليه فالحكم هناك لا يتصور ولم يعرف لنفسه بديلا، وفي هونج كونج تريد الجماهير أن تحكي للعالم ومن شوارعها رواية صينية عن هونج كونج غير الرواية التي تحكيها بكين وتصر عليها باعتبارها الرواية الوحيدة. كنا إلى سنوات قليلة نقرأ عن احتجاجات نقابية وفئوية في الصين. وقتها كانت الأنباء تصر على أرقام بالآلاف، آلاف الاحتجاجات وليس آلاف المحتجين. وفي روسيا تخرج جماهير نعلم القليل عنها إلا عن تلك التي لا بد أن يعلم العالم بخروجها، وهي جماهير العاصمة موسكو، أما جماهير روسيا السيبيرية فهي إن احتجت فلن نعلم بها إلا القليل ومتأخر جدا.

في اليمن وفي ليبيا خرجت جماهير إلى الشوارع ولم تزل فيها، وخرجت جماهير في السودان واحتجت ودفعت ثمن احتجاجاتها قبل أن تحصل على بعض ما تريد، وفي النهاية عادت إلى منازلها وأعمالها ومعها تحفظاتها، ولا أظن أنها ستتخلى عنها عندما تعلن الظروف عن حاجتها لجماهير آن أوان احتشادها في ساحات المدن أو في ساحات نفوس تملأها أنبل الذكريات وألعن الأوهام وأحلى الأحلام.

لكل جمهور خرج إلى الشوارع محتجا حكاية يريد أن يحكيها. يريد أن يحكيها بنفسه ولا يريد لأحد أو جهة أخرى أن تحكيها نيابة عنه. جرت العادة في أزمنة سابقة أن يقرر حزب ما في مكان ما أن ينهض بحركة احتجاج ضد سلطة حاكمة. تتبلغ فروع الحزب بالقرار فيبدأ التحشيد، وفي وقتنا كانت المدارس الثانوية خلال أيام الأسبوع من السبت إلى الخميس أو المساجد عقب أداء صلاة الجمعة مراكز التحشيد وانطلاق مظاهرات الاحتجاج. يقوم فينا خطيب، وبعد خطابه الناري وقد سخنت المشاعر يعين أحد المتظاهرين نفسه زعيما يحمله رفاقه على الأعناق وهم من تحته ومن خلفه يرددون ما تجود به قريحته من هتافات. من مدرستنا تتوجه المظاهرة إلى مدرسة أخرى ثم ثالثة لإخراج تلاميذها والشرطة لا تتدخل إلا حين تتوقف المظاهرة أمام مدرسة بنات أو أمام قصر حكومي.
تتدخل أيضا حين يشذ متظاهرون فيجمعون أحجارا يلقون بها على الشرطة التي لم تكن تحمل أسلحة نارية. السلاح النارى لم يحمله إلا الضابط أما الجندي فسلاحه عصا قصيرة. هى العصا التي كان يحملها جندي الحراسة الليلي، يجوب بها الشوارع والأزقة ببذلته السوداء الداكنة وبين الحين والحين وفي سكون الليل يطلق سعلة يتردد صداها في أرجاء الحي لترتعد عند سماعها فرائص اللصوص ويسمعها الضابط النوبتجي في قسم الشرطة فيبلغ سعادة المأمور أن الأمن مستتب.


اختفت هذه الصورة الرومانسية في عالمنا العربي وفي العوالم الأخرى. علمت باختفائها منذ زمن، منذ أن تعقدت ظروف الإدارة والحكم، منذ صار المواطن رقما صعبا في منظومة الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكومين، منذ أن بدأ أولادنا يتعاملون في فصول الحساب مع البليون والتريليون. هناك فوجئنا بالفجوات كلها تتسع والفروق تتعدد وتتعمق. عند ذاك لم تعد الدخول كافية أو مرضية. لا الأغنياء جدا ارتضوها أو انطفأت بالامتلاء لديهم شهوة التراكم أو امتنعوا عن ممارسة استفزاز الجماهير، ولا الفقراء استكفوا برزق من عند ربهم أو ولي أمرهم.

تنوعت وسائط الاتصال وانتشرت بين الصغار والكبار حتى صارت الأسرار والخصوصيات ممتلكات عامة، وتعددت المطالب والرغبات بما تجاوز قدرة الحكومات في كل مكان على الاستجابة وأداء واجبها. في كتالونيا اتسعت الفجوات في داخلها وبينها وبين مختلف مقاطعات إسبانيا. طالبوا بما لا تستطيع حكومتهم الوفاء به. طالبوا، فوق ما تحقق من الزيادة في الدخول والانتقال إلى طبقات اجتماعية أعلى، طالبوا بانفصال كتالونيا عن الوطن. تنكروا لوطن احتموا به مئات السنين من أجل وطن مشيد في أحلامهم. رفض الوطن الأكبر انتزاع جزء غال منه فاحتج الانفصاليون وسالت دماء وسادت فوضى وتعمق الانقسام في أهل البلد الواحد.

في بوليفيا والاكوادور نضجت ثورة من نوع آخر. خرجت من أمريكا الجنوبية قبل أربعين عاما مقتنعا بأنها سنوات قليلة وأرى أو أسمع عن حكومات يقودها زعماء من السكان الأصليين. هؤلاء هم أحفاد أهل أفلتوا من الإبادة أو الاندماج القسري في الجنس الأبيض. عشت قريبا منهم في شيلى ووسطهم في بيرو وتابعت مسيراتهم الاحتجاجية في المكسيك والشقيقات الخمس في أمريكا الوسطى. إيفو موراليس قائد حركة احتجاج ضد حملة الولايات المتحدة على نبات الكوكا، حملة حقا شريرة ومقاومة شرسة حتى صارت ورقة الكوكا رمز تحدي. هذا الرمز حمل السكان الأصليين إلى مقاعد الحكم لأول مرة. تحقق مطلب ثم تعددت المطالب وعجز موراليس عن الوفاء بأكثرها. الشعب المعتز بما حقق يريد طاقة أرخص ومياه أنقى وفساد أقل. المطالب نفسها التي خرج الآلاف يحتجون بسببها في لبنان وشيلي وإكوادور وهايتي وإندونيسيا والمغرب وتونس والسودان وآلاف أخرى في أنحاء متفرقة من إفريقيا تستعد للاحتجاج خلال الشهور والسنوات القادمة. الطبقات الحاكمة تقع في الأخطاء نفسها.


في الأرجنتين كاد الاحتجاج يخرج إلى الشارع كما في عديد الدول لولا عاطفة شعبية لم تخب رغم امتداد السنين. حدث قبل ستين عاما أو ما يزيد أن زرعت إيفا دوارتي وزوجها خوان بيرون بذرة البيرونية. هذا الخليط العجيب من شعبوية واشتراكية وتقديس الفرد والعداء لأمريكا نجح دائما في أن يصد عن الاستقرار في الأرجنتين تهديد ثورات الاحتجاج وتعدد المطالب الجماهيرية. تأتي حكومات محافظة مثل حكومة السنيور ماكري المنتهية ولايته هذا الأسبوع تحاول بمساعدة صندوق النقد تلبية المطالب المتزايدة ومعالجة العجز وسد ثغرات الفساد فتفشل، وبدلا من أن تخرج الجماهير إلى الشوارع احتجاجا على الفشل نراها مرة بعد أخرى منذ ستين عاما تعيد البيرونية إلى الحكم لتفشل هى الأخرى فيتدخل العسكريون لعزلها وإجراء انتخابات جديدة يتولى من خلالها المحافظون الحكم وهكذا. الأرجنتين ودول أخرى كثيرة بالقارة اللاتينية تعيش حالة احتجاج مستمرة، الاختلاف يكون في وسيلة التعبير عنه. الشارع وسيلة أم الثكنة العسكرية أم التمرد المسلح كما حدث في بيرو والمكسيك وكوبا وحدث ويعود الآن في كولومبيا. حتى مطلب السلام عجزت حكومات عن تحقيقه فصار هذا العجز دافعا للاحتجاج الشعبي.


في العراق كما في لبنان البديل غير جاهز. الفساد لم يشبع والطائفية عاجزة بالفعل والقول معا عن إشباع المطالب. في البلدين انطفأ بريق رموز وتوهجت باللمعان رموز أخرى. وفي البلدين تمتزج الضغوط الخارجية مع الداخلية لتفرز وضعا طاردا لأى بديل. الحل كما يتمنى بعضنا يوجد في تغيير سلوك الطبقة السياسية ليختلف جذريا وفعليا عن السلوك السيئ الراهن. هذا السلوك المتخيل أسهل أن يوجد في العراق من أن يوجد في لبنان. أعترف أننا ما كنا لنصل إلى هذا الاستنتاج لو لم نكن شهودا على تصرفات الطبقة الحاكمة اللبنانية وقت أزمة حادة كالأزمة الراهنة. اكتشفنا أن البديل الوحيد الممكن كامن في داخل الطبقة ذاتها وإن بشرط كالمعجزة. الشرط هو أن تشهر الطبقة إفلاسها وتعلن ندمها واكتفاءها بما جمعت وتخفض أعلامها ولا ترفع إلا علم لبنان وتلتزم إفساح المجال أمام جيل جديد يتقدم الصفوف في كل طائفة وتستعيد إلى النظام اللبناني وضع توازن القوي، الوضع الوحيد المطلوب لمستقبل آمن لهذا البلد.

لبنان ليس وحيدا في عالم الاحتجاج، كل العرب في حال أو آخر من حالات الاحتجاج، بل أغلب الشعوب. لبنان وحيد في خفة ظله وقدراته الحوارية والعراق أيضا وحيد، وحيد في العنف. يبقى فقط في النهاية مشدود القامة رافعا الرأس من تفادي السقوط في هاوية الفوضى والفساد المطلق.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version