انفض جمع “العرب” وانقسموا دولاً مصطرعة، يتآمر بعضها على بعض، ويتواطأ بعضها مع واشنطن او حتى مع تل ابيب على البعض الاخر، بل أن الأغنى ذهباً اسود او أبيض يقاتل “اخوته” الفقراء ويحتل بلادهم براً وبحراً، ويقيم قواعد عسكرية ستكون، بالتأكيد، لغيره، الاقوى والأبعد.
ابتعد اغنياء العرب عن فقرائهم مستظلين العلم الأميركي (والاسرائيلي) واندفعت الدول الأصغر والأغنى في مغامرات عسكرية في بعض البلاد “الشقيقة”، كسوريا وليبيا، فضلاً عن اليمن وجزيرة سوقطره.
بل أن بعض هذه الدول قد جهرت بتأييدها للعدوان الإسرائيلي الواسع على منشآت عسكرية وقواعد صواريخ ومطارات في سوريا، الأسبوع الماضي، بذريعة انها “ايرانية”، متجاهلة أن المهاجم هو العدو، وان المهاجم هو الأخ الشقيق.. خصوصاً وان “الايراني” لم يدخل غازياً إلى سوريا، ولا هو موجود خلافاً لإرادة النظام السوري.
لم تعد كلمة “العرب” تعني جسماً سياسياً أو كتلة مؤثرة في السياسة العالمية او الاقليمية. أسقطت “فلسطين” من القاموس السياسي، ولم تسقط سهواً، واحتلت “اسرائيل” مركزاً مميز في القرار العربي بعدما اسقط العرب “الحدود” بين الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل.. وانفض جمع دول عدم الانحياز بعد أن غادره “العرب” منحازين إلى المعسكر الاميركي، وان زادوا من علاقاتهم التجارية مع روسيا لأسباب تتصل بالاقتصاد والسلاح الذي لا تبيعهم مثله الادارة الاميركية.
الاسوأ أن العرب، والمقصود دائماً “الانظمة العربية” يقتتلون ولا يقاتلون عدوهم الواحد، ناهيك بداعمه الاعظم، الاميركي..
ففي الحرب على اليمن تشترك قوات من السعودية والامارات في الغزو، إلى حد التصادم، كما جرى في جزيرة سوقطره، وفي فصل عدن عن الشمال… ومن المخزي أن تشارك في هذه الحرب بعض القوات العربية في موقع “المرتزقة”!
كذلك فان قوات عربية تشارك، ولو مموهة، في الحرب في سوريا وعليها، وتعلن الادارة الاميركية بصراحة فجة أن قوات سعودية او ممولة من المملكة وقطرية او ممولة من قطر تقاتل ضد النظام في دمشق بذريعة “مناصرة السنة” ضد “النظام العلوي”.
وها هي الانتفاضة الفلسطينية المجيدة ضد الاحتلال الاسرائيلي في الذكرة السبعين لإقامة دولة العدو القومي والديني على الارض المقدسة، لا تجد معيناً عربياً.. بل أن العواصم العربية التي كانت جماهيرها تخرج لدعم الشعب الفلسطيني في كفاحه من اجل تحرير ارضه، تبدو صامتة إلى حد الخرس عن “ادانة” الاحتلال، وعن رفض القرار الاميركي بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب إلى القدس.. كما أن وفوداً عربية تخرج عن الحد الادنى من موجبات المقاطعة فترسل وفوداً إلى القدس المحتلة (المغرب والبحرين) قافزة من فوق جثث الشهداء الذين يتساقطون برصاص العدو خلال انتفاضته المجيدة التي “تشوش” على احتفالات اسرائيل بالذكرى السبعين لإقامة دولتها على ارض لم تكن لليهود في أي يوم عبر التاريخ المديد.
إن الدول العربية، وأولياء العهد والامراء والرؤساء والوزراء يتزاحمون على ابواب واشنطن، حاملين اليها قناطير الذهب، وترامب يطالبهم بالمزيد منوهاً بأنهم لا يستحقون ثرواتهم الخرافية، بل أن واشنطن أحق بها لأنها سوف تستخدمها من اجل تقدم اميركا بدلاً من انفاقها على القصور والحريم.
إن العرب يُهانون كل يوم، بأشخاص حكامهم، وعلى المستوى الدولي فلا يملكون رداً، لان “جماهيرهم” معتقلة او مهددة الاعتقال، او مخدرة بانعدام الامكان، وبإقفال ميدان الثورة في وجه هذه الجماهير بعد بعثرتها بالرشوة وأو بالإرهاب او بمقولة “ما فيش فايدة… غطيني يا صفية”!!.
إن المواطن العربي يتقلب بين اذلال الداخل والاهانات الجارحة التي تتساقط عليه كالمطر، يومياً.
لقد اغتيلت احلامه بالوحدة والتقدم والعدالة الاجتماعية، وما جرى هو العكس تماماً: تكتل اغنياء العرب، بالثروات التي تفجرت بها ارضهم او مياههم، بعيداً عن “اخوتهم الفقراء”، وانحازوا ـ سياسياً واقتصادياً ـ إلى اعدائهم: الامبريالية الاميركية والعدو الاسرائيلي.
تجمعت الانظمة الملكية والاماراتية الغنية من المغرب حتى ابو ظبي، مع استثناء العرش الاردني نأيا بالنفس عن القضية الفلسطينية، وتركت الجمهوريات الفقيرة او المنهكة بالحروب فيها وعليها (مصر، سوريا، العراق، لبنان، السودان، الصومال الخ) لمصيرها.. في حين اشتد الصراع بين الاخوة الاغنياء على “استعمار” الافقر من اخوتهم، كما يجري في بعض انحاء ليبيا والسودان والصومال وصولاً إلى تنزانيا.
بل أن الدول العربية الغنية تتقصد اذل “الاخوة الفقراء” بحاجتهم اليها، وثمة امثلة يومية لا تحصى، يمكن قراءتها في اقتصاديات مصر والسودان، فضلاً عن سوريا ولبنان..
أما اليمن فإن خناجر الاخوة ـ الأعداء تتناهشها، فتركز الرياض على الشمال، بينما تستعرض أبو ظبي قوتها في عدن وسائر الجنوب وصولاً إلى سوقطره وبحر العرب في اتجاه مضيق باب المندب.
وإذا ما استعرضنا عناصر القوة الذاتية لدول الذهب الاسود والابيض لثبت لنا أن هذه “النزعة الاستعمارية” لديها لا يمكن أن تكون ذاتية، بل لا بد أن تكون مسخرة لخدمة “الاصدقاء الاقوياء” ـ أي الولايات المتحدة الاميركية ومن معها وصولاً إلى اسرائيل ـ باستغلال العداء لإيران.
*****
هل اندثر العرب، وفقدوا دورهم وتأثيرهم في يومهم، وخسروا بالتالي مشروع مستقبلهم الواحد والواعد وعادوا قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب مصطرعة وقد نسيت هويتها الجامعة واحلامهم في الوحدة والحرية؟
إن الوطن العربي، اليوم، قد عاد إلى مثواه في الاحلام.
إن الدول العربية قبائل وافخاذ وعناصر مقتتلة:
وماذا ينفع العرب اذ خسروا دور مصر القيادي وربحوا، مثلاً، قطر كبديل؟
ومن يعوض سوريا في دورها التاريخي المعبر عن القلق على المصير والشوق إلى الوحدة والتحرير بعنوان فلسطين؟
ومتى يستعيد العراق عافيته ووحدته ويعود إلى موقعه الطبيعي في خدمة القضايا العادلة لامته، وأخطرها أن يكون عوناً لا عبئاً.. لاسيما وقد باشر تقدمه على توفير حل مقبول لمسألة اكراده.
السؤال الاخطر عن دور مصر: انها القيادة، حتى لو كان فيها من لا يرغب بهذا الدور.. وقد علمتنا التجارب أن “الوحدة” تكون بها او لا تكون، وان العدالة الاجتماعية تكون بها ومعها او لا تكون، وان المستقبل العربي لا يمكن صياغته كما يتمنى اهله الا بها ومعها، خصوصاً اذا ما تلاقت مع المشرق بعنوان سوريا..
هي أحلام؟
ربما.. ولكن، متى كان الانسان يعيش بلا احلام؟!
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية