طلال سلمان

حديث الجمال

كان لنا في بيت أحد أخوالي طابق للصغار يلهون فيه ويحضرون دروسهم ويؤدون من المهام المنزلية الخفيفة ما يكلفون به، وفي نهاية اليوم يتحممون ويستعدون للعشاء الذي يلتئم كل ليلة في حضرة كبير العائلة. كان بيننا نحن الصغار صغيرة دائبة الاختفاء في أوقات أداء مهامنا المنزلية التي كانت تتوزع علينا حسب النوع، للصبيان مهام وللبنات مهام أخرى. ما من مرة اختفت إلا ووجدناها أمام مرآة تمشط شعرها، تغير تسريحة ابتكرتها في الصباح وتضع محلها تسريحة جديدة، أو تقف فوق، أو في داخل، حذاء أوسع من قدميها الصغيرتين، أو تحشو أردافها وصدرها بجوارب ومناديل لتمثل أمام المرآة توقعها لنفسها في سن السادسة عشرة. كبرنا ونضجنا، وإنْ بدرجات متفاوتة، واقتحمنا معا مرحلة الشباب. كانت دائما وخلال كل المراحل حريصة على أن تبدو أنيقة وجذابة.. وجميلة.

***

التقينا بعد مرور سنوات عديدة قضيتها في الخارج. خصصنا اجتماعنا الأول لمقارنة مذكراتنا وانطباعاتنا عن أيام النشأة ومراحل الانتقال من الطفولة إلى النضوج الأول ثم الثاني قبل بداية تحسسنا مؤشرات المراهقة وانتهاءً برسم الشخصية وتجسيدها. تحدثنا أيضا عن مسيرات أخواتها وكشفنا، كل للآخر، عن أسرار وخفايا كتمناها أطفالا ومراهقين وأمهات وآباء ولم نطلع عليها أحدا حتى يوم هذا اللقاء. علمت منها أنها درست حتى تخصصت في الجمال. درسته تاريخا وفلسفة وعلم أخلاق وأدبا وتخصصت فيه فنا ومهنة وتجارة. «أنا الآن أمتلك هذه المؤسسة التي أسعدتني بزيارتها، ندرس للشباب في قسم منها أخلاقيات الجمال ومعانيه. وفي قسم آخر نقود متدربين وفنيين إلى عالم صناعة الجمال وفنون صيانته والمحافظة عليه. وفي قسم ثالث أقمنا معامل لإنتاج مستحضرات تجميل. أنت ماذا فعلت بنفسك وفعل بك الزمن؟».

***

اخترت من رحلتي من مصر إلى أقصى الشرق ومن هناك إلى الغرب ثم أقصى الغرب ما يدخل في اهتمام روايتها التي بدأتها هي في سن مبكرة في قاهرة المعز إلى أن حطت الرحال في القاهرة الخديوية وأخيرا في حي من أحياء ما اصطلحنا على تسميته «ما بعد القاهرة التي كنا نعرفها ونعشقها». طلبت منها مساعدتي، وإن بعد فوات الفرصة وربما الأوان أيضا، في الإجابة عن سؤال لم أتمكن من الحصول عليها بنفسي ولا بمساعدة آخرين سبقوها إلى مناقشة الموضوع معي. سألتها إن كانت هناك معايير موحدة للجمال في العالم أو حتى في كل حضارة من الحضارات التي مرت بها البشرية، معايير اتفق أو توافق عليها علماء وعشاق الجمال. كنت قد بدأت اسأل هذا السؤال في اليوم الذي عسكرت فيه مع فرقة الجوالة وسط غابة تسكنها قبيلة من قبائل إقليم النوبة. كانت القبيلة تحتفل بعيد من أهم أعيادها حين تزف «أجمل» فتيات القبيلة إلى أقوى شبانها وأمهرهم في الصيد ومعروف عنه التفوق في اختبارات الذكاء التي ينظمها شيوخ القبيلة بين الحين والآخر. وقفت الجميلة، أقصد الأجمل، في مقدمة صف الفتيات في انتظار وصول البطل فكانت فرصة انتهزتها لأحكم بنفسي ولنفسي المسابقة والتأكد من أن العروس هي بالفعل الأجمل بين المتسابقات. أخفيت فشلي، وفشلت مرة أخرى حينما لم أجد الشجاعة للاستفسار عن المعايير «الوطنية أو القبلية» التي جرت على أساسها المسابقة. اغتظت أكثر حين أطنب شيخ القبيلة، وهو جندي سابق خدم في الجيش البريطاني، في وصف انبهار كل رجال القبيلة بجمال الفتاة سعيدة الحظ. واجهت المشكلة ذاتها في الهند. قيل لي إنني لن أكون أول ولا آخر من غلبه اليأس من التوصل إلى تعريف للجمال الهندي، فالهند ليست هند واحدة ولكل هند معاييرها الخاصة بل وللمسلمين معاييرهم وكذلك الهندوس وطائفة السيخ. لاحظت خلال رحلتي أن مشكلة الإجابة عن سؤالي ازدادت تعقيدا كلما اتجهت شرقا حتى بلغت أوجها في ريف الصين وشوارع هونج كونج وطوكيو وفي قاعات جامعاتها ومكاتب شركاتها العظمى.

***

عرفت أننى أحسنت صنعا حين اخترت الجمال موضوعا أستعيد به حميمية الطفولة والمراهقة. علقت على حديثي بلهجة العارف الواثق وبقولها إننى ما كنت في حاجة للذهاب شرقا إلى الهند والصين واليابان وغيرها من دول آسيا لأدرك ثلاثة أمور. سكتت قليلا وهي ترفع شعرها المنسدل حتى كتفيها لتختار له وضعا أجمل، ثم استطردت قائلة «أحد هذه الأمور الثلاثة أفصحت بنفسك عنه وهو اكتشافك أن لكل شعب، وربما جزء من شعب، معاييره الخاصة التي يقيس بها جمال نسائه أو يعمل على توافرها فيهن. أنت هنا في مصر تستطيع أن تستخلص معايير الجمال لدى شعوب مصر القديمة. أقول شعوب بالجمع لأن مقاييس المصريين ومعاييرهم وطباعهم تغيرت عبر القرون. أعود إلى حديثنا، كنت أقول إنه لا شك عندي في أن النحات المصري كان حريصا على أن يكون تمثال الملكة أو الأميرة أو الفلاحة «أجمل» من الحقيقة. يبقى السؤال، إلى أي معايير استند هذا النحات ليصنع هذا التمثال لامرأة أجمل من أميرة ربما لم تكن جميلة. ومع ذلك، ورغم كل الجهد الذي بذله ليكسب رضاء أولي الأمر، وكانوا حسب ما وصل إلينا قساة القلوب ومستبدين، إلا أننا وعلى مسافة آلاف السنين نعتقد أن المرأة المصرية في تلك الأزمنة لم تكن «جميلة» بمعايير عصرنا، حتى هذه لم يتكون بعد إجماع عليها..

***

الأمر الثاني الذي كان يجب، حسب رأيها، أن أدركه وأنا أبحث عن معايير موحدة للجمال في آسيا هو أن المعايير إنْ وجدت فلأجل قصير لن تتجاوزه. نعرف أنه ما من شعب بقي بدون اختلاط بالغرباء لأى مدة من الزمن. الهجرات وبالذات في الشرق الأوسط لم تترك شعبا نقيا، وبالتالي اختلفت أذواق الناس ونظرتها للجمال مع استمرار التغير في الشكل. لاحظ أيضا أن الشعوب القديمة كانت أكثر ميلا للحرب وأقوى رغبة في الاحتفاظ بالأسرى. وقد رأينا على جدران معابدنا أشكالا للأسرى من غرب آسيا ومن إفريقيا تختلف كثيرا عن أشكال المصريين. هؤلاء عاشوا واختلطوا وطرحوا معايير جمال جديدة.

***

«الأمر الثالث والغريب أنك لم تسأل عنه أو تدركه في حِلِّك وترحالك، أكان الرجال أم النساء هم الذين في كل عصر يضعون معايير الجمال. لدينا قرائن متناقضة. النحاتون والرسامون العظام في التاريخ، وكلهم من الرجال، هم الذي تركوا لنا رأس نفرتيتي وتمثالا لكل من فينوس وأفروديت وعددا من تماثيل ترمز إلى النساء بين آلهة الهنود وتماثيل تصور الحب في جميع مراحله ونماذج لجمال المرأة كما حلموا به أو تخيلوه، وليس بالضرورة استنساخا لواقع نساء عصرهم. كذلك فإن العظماء من الأنبياء والحكام ورجال الدين والمحاربون الكبار أغلبهم خلف لنا سيرا وعقائد تحكي عن نساء بأوصاف جمال معينة لا نعرف بالدقة مدى صحتها، وأغلبها على كل حال لا يتوافق مع المعايير الراهنة. مع ذلك الدليل قائم على أن المرأة في الصين هي التي قررت أنه من معايير الجمال صغر حجم وشكل القدمين والمرأة في مصر هي التي قررت منذ القدم أن العيون الواسعة صفة أساسية من صفات الجمال، بينما قررت المرأة العربية أن الفم الصغير، الذي هو في حجم خاتم سليمان، المعيار الأهم بين معايير الجمال عندها.

***

نعيش هذه الأيام حالة ربما فريدة في التاريخ الإنساني: حالة نساء متمردات على الوضع القائم ونافرات من جنس الرجال وراغبات في التغيير مهما كان الثمن. سألت خبيرة الجمال، سألتها إن كنا على مشارف عصر ترفض فيه النساء المعايير الأوروبية للجمال ويخترن معايير بديلة. أليست المعايير الراهنة من ثمار العولمة التي صارت مرفوضة؟ قالت «هيا تفضل معى لتشهد عرضا لمنتجات من صنعنا نلبى بها حاجة النساء من زبائننا للسنوات الخمس القادمة، أؤكد لك أن المعايير الأوروبية للجمال باقية معنا إلى أجل غير قصير».

***

غادرت ولم أشبع حاجتي من أحاديث الجمال. أنا عائد لا محالة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version