طلال سلمان

حاجات ومشاعر

الجولة الأولى

تحدثت إليه بصوت خفيض حتى لا يسمعه سياح آخرون. قالت أنا غير مسموح لي أن أمر بأصابعي على تفاصيل وجه التمثال أو باقي أعضاء جسده. هل أثقل عليك فأطلب شرحا أكثر استفاضة لكل تمثال على حدة وتركيز أدق على التفاصيل، العينان والأنف والشفتان والابتسامة والرقبة والشعر، بل وزينة الوجه إن استطعت إلى ذلك سبيلا.
انتقلت المجموعة تحت قيادته إلى باقة أخرى من التماثيل لتتوقف أمام تمثال بعينه. شرح ظروف نحت التمثال وما تناقلته أجيال الأثريين من حكايات عن بطليه. اقتربت منه ومالت على أذنه وهمست قائلة، شرحت لنا بكل دقة وبأمانة مهنية درجة الإبداع في صنع هذا التمثال. الآن حاول أن تنقل لنا أو لي أنا وحدي إن شئت ما يقوله هذا الحضن. الأحضان أنواع كما لا شك تعرف. أسألك إلى أي نوع ينتمي هذا الحضن، أو زد من التفاصيل ودعني أتوصل بنفسي إلى إجابة. قل لي أين توجد أصابع الرجل، على ذراعيها؟ وهل توغلت في اللحم قليلا، أم هي مسترخية فوق جسده في كسل وعدم اكتراث؟ استرسل في الوصف. شعر المرأة في التمثال منسدل حتى الكتفين، تتسرب منه خصل لتتوقف أعلى الصدر بقليل. خصلة لم تبتعد عن الخد وبقيت قرب العينين ترسم علامة استفهام. العينان بالكحل تستطيلان وتستديران وفي الحالتين متألقتان وتنظران بنهم إلى الرجل الذي يحتضنها. استمعت إليه حتى انتهي. أرادت أن تسأل وتعلق لتستزيد. ولم تفعل.

***

الجولة الثانية

أسرعت نحوه لتختلي به قبل أن ينضم باقي أفراد المجموعة. همست قائلة، لم أفهم بالأمس ماذا قصدت حين وصفت نظرة المرأة في التمثال إلى الرجل الذي يحتضنها بالنهم. تريد أن تقول إنها تحبه. أنكر أنه قصد هذا. قال قصدت إنها نظرة امرأة تشتهي رجلا. ردت بسرعة أنا لا أفهمك، كيف تشتهيه إلا إذا كانت تحبه؟ سألتك ولم ترد. صاحبتنا في التمثال أتحب رجلها؟. لماذا لم يكن النحات أمينا في نقل حبها فجعلها تبدو لك وربما لغيرك نهمة مشتهية؟. تردد قبل أن يجيب باقتضاب، التماثيل التي أعرفها ودرستها لا تعرف الحب، ثم من أدرانا إن كان أهل ذاك الزمن عرفوا الحب كما يعرفه بعض أهل زماننا، وأنت كما يتضح من أسئلتك واحدة منهم.
ردت، أسمعك تستهين بالحب. أنت مثلهم عندما تحكي عن امرأة تحب. تقول وقعت في الحب. لماذا لا تقول صعدت إلى الحب أو طارت نحوه. نعم أنت مثلهم تعتبر الحب مصيبة أو كارثة تحل بالمرأة. أنتم للأسف كثيرون ففي أغلب اللغات والثقافات الناس تقع حين تحب. هذه الليلة إذا سمح وقت فراغك أريد أن تأخذني بعيدا عن المجموعة، تأخذني إلى النهر العظيم. خذني إلى هذا النهر الذي يروي أراضيكم النهمة دائما إلى مياهه ويشغل بطاقته مصانعكم وينير بيوتكم ويزين مدنكم التي يمر فيها أو بجوارها..

***

الجولة الثالثة

أريد أن أسمع منك هذه الليلة تفسيرا لسحر هذا النهر أهي هذه النسائم الناعمة التي ترطب وجوهنا ويتطاير معها شعرنا وتنفك بها عقد ألسنتنا فنقول ما لم نكن نجد الشجاعة للنطق به ونحن على اليابسة، هي النسائم التي تفقد تنانيرنا وقارها وتفقدنا رزانتنا. أم هي الأنغام والألحان التي أسمع الرجل الممسك بحبال الشراع ودفة المركب يدندن بها ويغني على أنغام استعذبتها الآن، وما كنت استعذبها لو سمعتها خارج بلدك أو بعيدا بأي مسافة عن هذا النهر وهذا المركب. توقفت برهة قبل أن تمد يدها الصغيرة باحثة عن يده لتستقر فوقها في حنان بالغ وتضيف، ما كنت أستعذبها لو سمعتها وأنا بعيدة عنك.
سكت الاثنان وسمع صاحب المركب سكوتهما فاحترمه بسكوت مماثل. راحت المركب تتهادى مع التيار شمالا وتعود لتتهادى مع الرياح جنوبا. ثلاثتهما احترموا الرغبة المشتركة لتجاهل عنصر الوقت، حتى الشطئان هدأ الصخب فيها وكأن المدينة قررت المساهمة في روعة المشهد فابتعدت. سعلة خفيفة من القبطان لعلها كانت لطرد دخان من سيجارة احتبس في حلقه انسحبت بعدها اليد التي احتضنت يد الشاب وانتهي نعيم الصمت.
قالت، وهما في العربة الحنطور في طريقهما إلى الفندق، أسمعكم تمجدون ماضيكم، تصفون الآثار بأنها الأجمل في الفن والهندسة والعمارة والفراعنة كانوا أجمل والأحياء القديمة في مدنكم هي الأجمل والأدب الأقدم أجمل والسينما والأغاني كانت أجمل. ألا يوجد في حياتكم وعصركم شيئا جميلا؟ أجاب وقد مسه من سحر النهر ما مسها، لا، ليس كل القديم، ها أنت أمامي الأجمل بين كل من عرفت من النساء.

***

الجولة الرابعة

فور وصوله في الصباح الباكر في الموعد المعتاد بادرته بالقول، أما وقد احتضنتني وأنت تودعني على باب الفندق ليلة أمس، أنتهز الفرصة لأسألك كيف بدت لك رائحتي. شعرت بأنفاسك قريبة من رقبتى تشارك في الاحتضان وتسترق الشم. لم يفكر الشاب طويلا وفاجأها قائلا، لن أنسى ما حييت رائحتك. كانت كرائحة الأرض فور هطول الدفقة الأولى من أمطار أوائل الربيع، رائحة أرض تنتظر بشوق من يحرثها ويبذر فيها البذور.
قالت أعجبني رأيك في رائحتي. الآن أسألك عن رأيك في شىء آخر. سمعتني أغني في حفل دار الأوبرا أمام مئات الضيوف، كيف بدا لك صوتي؟ لا تعتذر بقلة خبرتك في التمييز بين الأصوات. أريد رأيك أنت بالذات وليس رأي الخبراء والمعجبين. أحترم آراءك، كنت أنت الذي جعلتني أحب كل قديم. فهمت من خلالك معنى أن تبدع في نحت تمثال إلى حد أن تصرخ فيه طالبا منه أن ينطق. أعرف هذا الشعور حين أسمع الجمهور يغني معي ما أغنيه أو يصفق وقوفا طالبا المزيد. فهمت من خلالك معنى غرور الفنان واعتقاده، عن حق أو غير حق، أنه يستحق مكانا أعلى قليلا من مكان البشر. فهمت أيضا من خلالك ما لم تفهمه أنت نفسك أو ترفضه معاندة وتكبر، فهمت معنى أن تشعر بالحب فتعطي لنفسك الحق في أن تسمو فوق الخلق بدون استئذان أو ترخيص. الآن أسألك كيف بدا لك صوتي وأنت في القاعة الصغيرة بالأوبرا تسمعني. قال، صوتك وأنت تحدثيني كصوتك وأنت تهمسين في أذني كصوتك وأنت على مسرح تغنين كصوت نتف سحاب “تتشاقى”، شقاوة نتف بيضاء ناصعة مع نتف داكنة شريرة. هي الشقاوة التي تسبق العاصفة برعدها وبرقها وسيول أمطارها. في صوتك شقاوة ودعوة للمشاركة في توقع شيء مهم يحدث. صوتك يعود معنا إلى بيوتنا، يشاركنا الفراش وفي الصباح يسابقنا إلى الحمام.
أنصتت بكل جوارحها وفكرت. هذا الرجل يريد أن يقول شيئا لا ينبغي أن أسمعه. ليته يعرف كم أنا سعيدة الآن. أكاد أطير. كم أنا محظوظة. ليت هذا الرجل يعرف أنني أحبه حب امرأة تحب لأول مرة.

***

الجولة الخامسة

اليوم وقبل بدء جولتنا أدعوك لنشرب سويا قليلا من القهوة وتسمعني اتكلم. رأيتني في كل الأجواء. رأيتني تحت الشمس الحارقة أتصبب عرقا وقميصك يظللني. تصر أن أضع قبعتك على رأسي. رأيتني في الليالي الباردة وأنا أقترب عسى أنفاسك تدفئني. اليوم أريد أن أقترب أكثر من أي مرة سابقة. لن أهتم بالآخرين. لو عرفوا بما سأقول لهللوا فرحا وتشجيعا. أطلب قهوتك واشربها لأنني لا أريد مقاطعة. حشوت عقلي على مدى أيام بحديث فارغ عن الحاجات والشهوات. بدأت متفاخرا بعلاقاتك العديدة مع النساء. حاولت إقناعى بأن الحب في أحسن الأحوال كذبة كبرى وأنك مثل رجال كثيرين تسعى لاشباع حاجاتك. قلتها مرارا إنك لن تحب.
قاطعها، أقولها مرة أخرى. أنا رجل لا أتعامل أو أتفاهم بالمشاعر، أنا عكسك. أنا خائف عليك، بل وعلينا من عاصفة تقترب منا. كنا مختلفين. كنت واقعا باردا يرفض أن يتغير. لا يتغير حتى “خبطته” ريشة حملها الغيب، اهتز الواقع من الأعماق. تذكرين أنك مررت بأصابعك على وجهي تتعرفين على تفاصيله، وكنا في جولتنا الثالثة، فالتقت أصابعك مع دموع بللت الخدين. أعرف أنك تصورت في ذلك الحين أنها دموع حب، ولكنى ما زلت أؤكد أنها دموع تجرأت فنزلت تطفئ نار حاجة أو أخرى.
قاطعته بدورها، أرجوك لا تكذب. أنت تحبني. يزعجني رفضك الاعتراف بالمشاعر ودفاعك عن الحاجات. اليوم، وقبل رحيلي سوف ترى الحب وكيف يروض الحاجات، سوف ترى كيف يتغلب حبي لك على الحاح حاجاتك ويهذبها فتنتهي حبا كحبي.

***

الجولة السادسة، على رصيف القطار.

لن أنساك. كيف أنسى الرجل الذي جعل الكفيفة، التي هي أنا، ترى الدنيا بتفاصيلها وتبصر فيها ما لم تكن تبصر، جعلها تشعر بالحب بل وتدافع عنه، أخرجها من الظلمات إلى النور. لن أشكرك على كل ما فعلت وفعلناه معا. لن أشكرك لأنك حبيبي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version