طلال سلمان

جورج قرم.. زمن مفتوح على نهايات

جورج قرم، ترك ضوأه. الشعلة لا يطفئها الزمن. هو خالد أبداً. لا صفات تحوشه. لا ملامة له أو عليه. شيء من الترهبن للمعرفة والوضوح والالتزام. لا، ليس عابراً أبداً. إقامته ليست في غياب. هو هنا دائماً، إلى زمن يحتضن رجالاً ونساءً، كانوا ضوءاً، لا يُطفئه الزمن المتمادي.

جورج قرم يشبه جورج قرم. مُقيمٌ في المعرفة. ملتزمٌ بالحياة؛ بالقيم؛ بالمعرفة. هو منارة للوضوح. ثمة فوارق كثيرة بينه وبين آخرين، لم يفوا بوعد المعرفة ووظيفتها الرائية والمبدعة والفاتحة على مستقبل لا يشبه ماضياً يتكرر، من سيء إلى أسوأ.

جورج قرم، من مثله؟ لا أعرف أحداً بقامته وشطح معارفه، وتواضع حضوره، وآفاق نقاشاته. من يمسح بعينيه المراجع التي كانت مبيته، والمؤلفات التي حبَّر حروفها وصان معانيها وساءلها وساءلته؟ من يحصي كم كان ثرياً معرفياً.. ومتواضعاً جداً؟

شيء من القداسة المدنية والطهرانية المتواضعة.

إنما؛

أصعب ما نصاب به، أن تكون الحياة استعداداً للرحيل. أن تموت، يعني أن تغيب عن الأنظار، نهائياً. إنما، قلة تغيب، ولا تتبعها ظلالها. دائماً، يتنبه التاريخ إلى أناس اهتدوا بأنفسهم إلى قيم، فتبنوها، لتصدِّق الأحلام وتبرهن على شرعيتها. وعليه، جورج قرم، جاء هذا العالم، ولم يكن إنساناً عابراً. عاش عصره وزمنه، بأبجديته وأبعاده ومآسيه. عاش أزمنة التدمير الذاتي وعاين المآسي المستدامة.. وظل مؤمناً بالمعرفة.

غريبٌ. لم ييأس أبداً. كأنه في أول الإقلاع. الأمام أفقه، الوراء زاده، البعيد مرماه.. لكنّ الأمام قصيٌّ وبعيدٌ وأحياناً سراب.

كنا نعوِّل في زمنه، على غد لا يشبه الأمس أبداً. غريب. مشى. كتب. ناضل. نبَّه. شرح. حلّل.. عبث؛ الوصول ممتنع والقافلة العربية تحلم بماضٍ عَبَرَ وأحلام امحت وبلوغ مستحيل. أما حملة المعارف، فقد حادوا عن الصواب الإنساني.

قبض جورج قرم على مفتاح السرادق العربي، من المحيط إلى الخليج. عوَّل على نهضة؛ على فكر؛ على مسار ديموقراطي بهدف تأمين نصاب الحريات، إذ، لا وطنية ولا قومية ولا تقدم، من دون حرية..

يختلف جورج قرم عن كثيرين.

هل كان يمكن ترسيم مسارات لبلوغ الحياة، بما يليق بالإنسان. غريب. الحرية ممنوعة. النقد هدم. “اتركوا القافلة تسير على هوى قراصنة السياسة”. كل ما هو جديد، لا يصمد وكل ما هو قديم لا يُحيى ولا يَحيا. في هذا المناخ المعتكر، عربياً ودينياً ووطنياً، بدت الطروحات المعروضة سخيفة، برغم جدتها.. كُتبت بحبر، وُزّعت ونوقشت ثم.. أهملت. الحرية ممنوعة. “الثقافة” تبنى على الإيمان والتقليد، وحدّثني فلان عن فلان، وعلى رضا الفقهاء ورجال الدين وترسانات القمع.

ربما، وكما يشير جورج قرم، ليست المشكلة بهذه البساطة. أوضح: الجمود، دليل على قناعة بضرورة الارتباط بالماضي، وهو في أغلبه ديني – سياسي – أقوامي.. أما الجديد، فهو أفكار وقيم وبرامج وأنظمة وتعاليم ملغومة، مروَّضة، موظفة لمصالح أميركا والغرب..

وهنا كانت الفاجعة: البقاء في متاريس الماضي: استمرار التأخر والتخلف والعقم؛ تبني برامج الغرب؛ محو مباشر لمعتقدات مزمنة، إيمانية وسياسية مندمجة، وهذا ما يستنفر القوى الدينية، حفاظاً على الهوية التاريخية، حتى ولو كان الثمن، الغرق في الفتن الدينية والطائفية والمذهبية.

جورج قرم، تميّز بشمولية فكره، واتساع آفاق معرفته، وتأصُّلُه بقيم إنسانية، ورهانه على أن المعرفة قوة، وهذا ما دفعه إلى التوغل أكثر، ومحاربة الجهل ومكافحة اليأس.. وهو المدرك لجحيم شعوب تقتات من نيران العقائد المذهبية والمصالح المالية..

اتساع أفقه ومعارفه، واستعارة الماضي والاشتغال فيه وكشف مصادره وعيوبه، كلُ ذلك دفعه إلى كشف الكارثة المستدامة. إحدى أهم النتائج التي بلغها، هي: الدولة ممنوعة. الاستقلال محروم. والغرب يدفع إلى مزيد من الظلم: “أنا الله.. لا مفر مني”.

لم يوفر الغرب الهمجي راهناً، الفاتك دائماً، المرعب بكفاءة العقوبات، المذل بهدف تحويل الأمم والجماعات إلى حطام.. لم يوفر للعرب، إلا الطاعة وممارسة الصمت وتبني الضعف والتحوّل إلى أسواق تستضيف السلع الغربية.

القوميات راهنت وفشلت. الشعوب العربية صارت غباراً ثقيل الوطأة. الأحزاب جهدت ولم يكن جهدها مصيباً. تبني قيم الغرب ممنوع، إلا بوظيفة التبعية.. خرجت الأحزاب النهضوية عن برامجها. أفلست الجامعات في إنتاج رجال معرفة ومواقف. عدوّان في مساحة جغرافية لا يصنعان دولة عدالة. وحده الانتماء إلى المستقبل مشروع. الانتماء إلى الماضي يوصلنا إلى خرافة: “قابين قتل هابيل”. ما زلنا في المقتلة.

من يمسح بعقله كتب جورج قرم ومؤلفاته، يدرك أسباب التخلف العربي. فقدان القومية في تغيبها. ترهُّل الشعارات التي كانت تخفق لها القلوب.. وعليه، لم يكن أمام الشعوب العربية غير أئمتها: الخضوع جريمة. وعدم الخضوع قاصر جداً. نحن راهناً نعيش في منزلة بين منزلتين.. ينقصنا الوجود.

كتابه الزاخر بالتحليل والتدقيق والمنفتح على التناقضات، يدرس فيه “السياقات السياسية والاشكاليات من القرن التاسع عشر حتى القرن الواحد والعشرين”. يتميز هذا المؤلف بكثافة المعلومات وأصالة المتابعة والنقاش.. قام برحلة في الفكر العربي المعاصر، مميزاً بين الحضارة الإسلامية والثقافة العربية. يتوقف عند القرن التاسع عشر، مميزاً فيه، بين الفكر والدين.. محاولاً، قراءة معنى الانجذاب الدائم نحو الماضي (الماضي راهناً يقيم في الحاضر ويتطاول على المستقبل). هذا زمن يلجأ فيه المتدينون إلى “حدثني فلان عن فلان”. معارك مذهبية طاحنة.. “الإسلام” في معارك مهلكة بين المسلمين أنفسهم. تراجع العقل النقدي الملتزم بالواقع والوقائع.. يحدث كل ذلك، علناً، وبأصوات استفزازية، بهدف مصادرة المستقبل كاملاً.

يعيش الإسلام اليوم على ثراء ديني، فيما قوى الفكر الحر تتراجع وتخلي الساحة لقوى التدين السياسي والروحي. المثقفون العرب، هربوا من التدهور الفكري الخطير، فأقاموا صلات وصل مع أوروبا.. مواسم الهجرة إلى الغرب، تسير على قدم وساق.. ولا رجعة إلى الوراء.

لماذا كل هذا؟

قامت “إسرائيل” وتوحدت فيما تفرّق العرب. يُعيد قرم الأسباب إلى تعدد الهويات والانتماءات. العرب ليسوا عرباً إلا بالإسم. فشلت الأحزاب الوطنية والقومية. ثم، وهذا أمر معاصر، شهدنا صعود الشيعة بطريقة مختلفة في مسارها، عن الحركات الإسلامية “السنية”. وهذا، ما دفع السنة إلى مجهول وفوضى وخسوف وتشلع واعتماد على الجبهات العسكرية السياسية من المحيط إلى الخليج.

يختم قرم، كتابه الغني والفائض، بفصل سمّاه الخاتمة، وهو ليس خاتمة أبداً. عنوانه: تحلل الشأن السياسي، بعناوين فاقعة. ما العلاقة بين السياسة والفكر؟ (فالصو)، الوحدة العربية، فعل ماض مات. الإسلام السياسي، أبجد هوّز لأكثر من مرة. انحطاط اجتماعي. تبعثر الهويات. المال ورأس المال هو الدين الجديد، بل هو الدين الوحيد. الإسلام زينة في معظم الأحيان. إرهاب يُولّد إرهاباً مضاداً.

هل هذا بسبب تخلّف عقلي وفقدان إيمان؟

حتى الآن ليس هناك بصيص أمل للخروج من النفق العربي المظلم.

هل هناك عقم عربي؟

طبعاً لا. هناك إرهاب فكري، ديني، مخابراتي، يجعل من الفكر والتفكير جريمة.

يبحر جورج في طرح أسئلة الأسباب: لماذا؟ من نحن؟ هل نحن نحن؟ الطريق إلى الغرب مسموح ويصدَّر للعرب بالقوة. لذا، كل الحكومات والأنظمة العربية، ملكية، إماراتية، جمهورية، حزبية، عسكرية.. كلها ضد الحرية ومع القمع..

هناك تواطؤ كبير وشبه معلن، بين غرب أكول، وعرب مأكولين.. أميركا تأمر، والأمير والملك الرئيس، يُوقّع ويُطيع.

السؤال الذي لا جواب مادياً له: أين هي الشعوب؟ الدكتاتوريات العربية، استعارت جيوشها، لمنع الشعوب من التواجد. المطلوب أن يكون الشعب ظلاً.. وإلا.

بحث جورج قرم، عن نوافذ وآفاق. كان مطلوباً، ولو بعد يأس وتعذيب وإهانات، ومن سلطات يرضى عليها الشعب.. الإنتماء إلى حداثة صعبة.

أنهي هذه الكلمات الناقصة بمطلب أوديب: “دلوني على الحقائق”. السياسة خرافة عبثيَّة. هي علاج مضر للبؤساء. الحرية معهم مهددة دائماً بالاغتيال. عند العرب، الحرية ذات غياب فجائعي.. لذا:

ما أصعب أن تصبح إنساناً. وإذا كنا لن نموت غداً، إنما، نحن مرشحون للعذاب.

أخيراً، لا تطلبوا حلولاً من الله.

أخيراً وأولاً: يا جورج، أنت باق معنا، إلى زمن مفتوح على غدٍ مختلف.

Exit mobile version