طلال سلمان

ثورة 23 يوليو: من أجل الغد لا الأمس

تطرق الذكرى باب الوجدان آتية من قلب بحور النسيان المتعمّد والإهمال المقصود، والخوف من استعادتها بما يفسد ـ الاحتفال ـ السنوي الذي يشابه التأبين ويُراد به التثبت من اندثار كلمة “الثورة” وطمس “23 يوليو” تموز ووفاة بطلها جمال عبد الناصر.

تحضر الذكرى وتغيب مصر التي كانت والتي ينبغي أن تكون..

ليس الماضي مقبرة، وليس الماضي ملجأ نحتمي به خوفاً من الكوابيس التي يستولدها حاضر العجز لترسم ملامح المستقبل. الماضي ليس تعويذة نطرد بها شبح إحساسنا بالضعف وانعدام القدرة. ثورة 23 يوليو ـ تموز فعل إرادة لمواجهة ما كان تحقيقه في مستوى الأحلام. الإرادة هي الأصل، والإرادة هي ولادة الحلول لمواجهة الصعب.

ليست الثورة استذكاراً لأيام الشباب والقدرة على اختراق المستحيل التي ضعفت حتى تلاشت. الثورة ليست ذكريات. الثورة قرار بالمواجهة.

ليس لك مكان يا جمال عبد الناصر إلا في الميدان الذي خذلك نظامك فهزمك فيه قبل أن تهزمك إسرائيل، وقضيت وأنت تجتهد للعودة إليه لكي تكفر عن أخطائك وعن “خيانتك” لمن أعطاك ثقته: الخطأ في التقدير الصحيح لقوة العدو، وفي التقييم الصحيح لموازين العلاقات الدولية، وفي التثبت مما يمكن أن يقدمه معك ولك “العرب”، أصدقاء وخصوماً، أعداء وحلفاء.

هي فلسطين دائماً. هي إسرائيل أولاً وأخيراً، لأنها تختصر الكل، الأميركيين وعربهم، الانهزاميين من أهل السلطة وأهل المال والمتعبين من النضال.

هي فلسطين دائماً. هي رفض الهزيمة في مواجهة إسرائيل، لأن من يهزم في هذه المواجهة سيهزم في الميادين جميعاً: في التنمية والبناء والسعي إلى الازدهار والمنعة التي تحمي استقلال الإرادة. الهزيمة تجيء من الخلف وليس من مواجهة العدو. تجيء من قهر الشعب وعزله وإبعاده عن القرار الذي سيتحمّل أعباءه جميعاً. الهزيمة في القلب وفي الفكر الذي يرى في الالتحاق بالغير تقدماً وفي استعارة الأثواب الجاهزة دليل غنى. العجز ليس مغارة الأمان. لا مجال لأن تهرب من عدو يملأ عليك الحاضر والمستقبل ويعزلك عن العصر.. بل هو يعزلك عن ذاتك، عن أهلك، عن الدنيا، ويجعلك متسولاً تطلب نتفة من حقك فترفض عروضك للتنازل، لأن من يفرّط بالجزء يفرّط بالكل.

إذا كنت تستطيع أن ترفع رأسك، يا أخي، فلماذا تخفضه بالإذلال؟

وإذا كان حقك أمامك فلماذا لا تمد يدك لانتزاعه من غاصبه، بشرط أن تكون جاهزاً لمثل هذه المهمة المقدسة؟

إذا كانت كرامتك مهدورة فلن يتبرع أحد بإعادتها إليك!

إذا كانت أرضك محتلة فلن يحرّرها إلا دمك. ومن خاف أن تُعاد إليه سيناء ويخسر مصر كان محقاً.

العدو هو العدو. كان عدواً، وما زال عدواً، وسيبقى عدواً. هذا قراره، بل وعلة وجوده، إذا غفل عن هذه الحقيقة انتهى، وإذا غفلت عنها قدمت له انتصارات مجانية متوالية وخسرت مستقبلك.ليس لك مكان، يا جمال عبد الناصر، إلا في قلوب الذين هزموا بهزيمتك، وكانوا مستعدين لأن يقاتلوا بعد حرباً أخرى وحربين وثلاث حروب. ضد عدو حاضرهم وعدو مستقبل أطفالهم، ولأن يجاهدوا ضد حكامهم، ولأن ينصروك على نظامك الذي ظل حاجزاً بينهم وبين ما تصوروه فيك، بينهم وبين عهدك الذي قصّرت في حمايته.

الذين حملوا صورتك في القاهرة أمس، ومعها صورة من يجاهد اليوم لإنجاز بعض ما أعجزك نظامك قبل عدوك عن إنجازه، وليكمل ما قضيت دونه، تبدّوا كمن غزل أحلامه صوراً ومشى بها في قلب معتقل كبير..

.. ولسنا نستعيدك لنحاسبك، بل لنتبرأ “منهم”. نستعيد منك إصرارك على مواصلة المعركة بعد الهزيمة، وقد جاءك كأمر لمن يرد له أمر: الناس الذين كانوا يرفعون صورك (وجسدك وسيارتك) لأنهم يرون فيك قدرتهم على إحراز النصر. نستعيد منك وعيك المتأخر بخطورة العدو الذي واجهت، وما زال يواجهنا وإن غابت أكثرية العرب عن الميدان، وانحاز بعضهم إليه…

تجيئنا الذكرى، يا أبا خالد، ونحن في قلب المعركة التي لم تنجزها بنصر مبين، لأن الإنجاز يكون بالشعب كله، وليس بالعسكر، خصوصاً ليس بالعسكر وحده ولو كان ماريشالاته ملائكة مطهرين فكيف إذا كانوا فاسدين بالسلطة ومفسدين؟! لا يستطيع العسكر أن يقاتل إلا بأهله وبأرضهم وتاريخهم. لا قتال بالنيابة عن الشعب.

التحرير يكون بالشعب كله أو يظل قاصراً عن الاكتمال: بالشعب كله، من أبعد قرية في الجنوب إلى أقصى قرية في الشمال، من أعلى قمة في الجبل، إلى بطن السهل، ولقد قاتلك العدو في أقصى الجنوب وفي أبعد نقطة في الشمال والشرق، جبلاً وساحلاً، وفي الغرب المفتوح له المقفل عليك جميعه.

نستذكرك يا جمال عبد الناصر وقد أكدت في الأمة قدرتها على الإنجاز. أكدت الإمكان.

نستذكرك وقد وعينا أخطاءك قبل إنجازك: ليس المذياع (أو التلفزيون) بديلاً من التنظيم، وليست الحماسة بديلاً من الإعداد والاستعداد، وليس العسكر بديلاً من الشعب وليس الحزب، بما فيه التنظيم الطليعي بديلاً من الأمة: يجلس أركانه في الغرف المغلقة فيقرّرون وعلى الناس أن يتحمّلوا النتائج من دون أن يشاركوا فيشركوا في القرار.

نستذكرك اليوم يا جمال..

نستذكرك من أجل الغد، ليس من أجل البكاء على الأمس.

نستذكرك لنستمد من تجربتك الدروس والعِبَر والإصرار على الإكمال.

نستذكرك لنفاخر بعروبتنا ونلوذ بها ولو خانها أو أنكرها من لا وجود لهم من دونها.

وعروبتنا ليست كوفية وعقالاً مذهّباً، وإنما هي ارتباط بالأرض لا يتزعزع، وإيمان بهذا الإنسان الذي إن كانت له حريته انتصر على أعدائه جميعاً، إسرائيل ومن معها ومن خلفها من أبناء الهزيمة.

نشرت في “السفير” 23 تموز 2006

Exit mobile version