من أين أبدأ النهاية؟ في أي عصر نحن؟ لماذا اكتب؟ كي يقرأني العميان؟ أم تعلقاً بأمل مضاءٍ بالدم؟
لا أعرف جواباً. أعرف أنني جسد. أن فلسطين ضحية منتصبة. كثيفة الوجود. ليست أرضاً عادية. ليست كذبة سياسية. هي رحم لا يكف عن عذاب الولادات خوفاً من التعفن. يصعب عليها أن تغادر الحياة. تصنع حياتها وهي تموت. ترسم شكل السماء وهي تسخو بدمها. إنها شاهقة الوجود. معجزة البقاء. الغرب المصاب بهمجية مزمنة، اجترح وجوداً مسكوناً بالرعب والقتل والاجتياحات. قتلوها مراراً ولكن لم تمت أبداً. آلامها غذاؤها الدائم. وها هي تُهدّد الجحيم الإسرائيلي. هي قالت وتقول دائماً، لا تهدّدونا. الموت صديقنا.. والقيامة ليست سراباً.
أما بعد؛
لن أكتب حرفاً في بسالة شعب قرر أن يحيا تحت الأرض. شعبٌ يُعيد رسم فلسطين. فلسطين لا تشبه بلاداً أخرى. هي وجود حقيقي، تحت الأرض وفوقها وفي الأفق. “أُنظروا إليها.. إنها تولد مع كل صباح، وتسهر كل ليل. بانتظار كشح الدموع عن عيون من هم من سلالة بشرية لا تعرف الركوع والاستسلام، ولا تخاف الموت.. الفلسطيني ولاَدة مُعجزات.
تُرى لماذا؟
الغرب، من يكون؟ سحنته تشي بتوحش مزمن. الغرب الأنيق خبير بالإجرام. هو ذو قامة فاخرة. أناه تُلغي الآخر. يُتقن الحروب والاجتياحات. هذا الأنيق المُتباهي بحضارته، هو مجرمٌ وقذرٌ، يبني بلاده بحجارتنا. يفتتح متاحفه بما نهب من بلادنا، ومن القارات البائسة. هو يأمر بالتدمير. منذ مائتي عام، وهو يجتاح. اختصر الشعوب في القارات كلها، بقرارات تفضي إلى طحن الشعوب. أميركا حثالة أخلاق. أميركا أبادت شعباً. سبقت الصهيونية في استملاك ولايات. لم يقاتلوا، بل قتلوا. مثّلوا دور هيرودس عندما قتل أطفال بيت لحم، لأنه نمي إليه أن المسيح قد وُلد. هيرودس هو الأب القديم، الذي أنجب زعماءً وحكاماً وملوكاً، مدربين على التدمير والإبادات. الولايات المتحدة الأميركية “رجس كوني”. إنها من سلالة التوحش: حربان عالميتان. سحل مدن وقتل شعوب. حربٌ في فيتنام. حربٌ في لاغوس. حربٌ في أفغانستان، حروب شهرية لدول أميركا اللاتينية. العراق، لبنان، سوريا وفلسطين. إنها من سلالة آلهة التدمير والجشع. لذا، ما كنت أعرف منذ صغري أين هي السماء وهل هذه الأرض صالحة للحياة. الموت يستيقظ معها، ولا ينام.
وعلى صورتها ومثالها، كانت بريطانيا تجتاح الكرة الأرضية وتستبيحها.. كان البشر في زمنها يقولون: خلاصنا بموتنا أو بسلاح من طراز عشوائي. التدمير سياسةٌ انكليزيةٌ دائمةٌ. الاستعباد والاستبداد والاستتباع نهجٌ سياسيٌ عبقريٌ. ليس مهماً من تكون. المهم أن تكون خادماً، وأن تسير راكعاً على جبينك.
أيها المجرمون، نهنئكم. فزتم بتأليف جحيم. أنتم لا تمتون بصلة إلى مسيحية أصلية ولدت في أرض فلسطين. أنتم وحوش الحضارات. وحضاراتكم مبنية على جماجم شعوب الأرض اليتيمة. الإنسان الغربي ينسى جريمته. لا يؤنبه ضمير. أقفل ذاكراته عمداً. وكل شعب يفقد ذاكرته، إما يتوحش، أو يموت. فرنسا “شفيعة لبنان السياسي. تعرّفتُ إليها من خلال كُتَابها وشُعرائها. حاولت تقليدهم. أدمنت على قراءتهم. أصبحت غنياً. ذاكرتي ليست من ماءٍ على رخام. ما أقرأه أمتصه. إلى أن اندلعت حرب القنال. (العدوان الثلاثي: فرنسا، بريطانيا، إسرائيل). إنحزت إلى الحق. كنتُ في طريقي إلى الرهبنة على خطى القديسين. حصل أن خالفت الكاهن المتحمس لإسرائيل. اعترضت بتهذيب وخوف. صفعني الكاهن صفعة ألصقتني بالحائط (الجدار). ذُهلت. أنا أحب ثقافة وشعر الفرنسيين. ولكني لست حذاء في معاركهم.. يومذاك، انفصلت عن غرب كذّاب، والتصقت بالمسيح الفلسطيني، الذي صلبه اليهود.
هل أذكر ارتكابات فرنسا؟ يكفي أن نقرأ ملحمة القتل والحرق والتبديد. عندما اقرأ عذابات الجزائر المليونية في ظل الإستبداد والإستعمار الفرنسي، أُصاب نفسياً. أعالج روحي بحبة Lexotanil التي أدمنت عليها. هذا العالم دموي. مجرم. قاتل. وأنا لا أحتمل أن أصيب رفيقي بكلمة نابية. أظن أن تعاليم المسيح رسخت فيَّ. برغم ما يتعثر ايماني من فوضى أحبها واتقنها، فأنا دينياً، لست على صراط مستقيم أبداً.
الصراط الوحيد، هو صراط الإنسانية ولن أتنازل عنه.
أما بريطانيا العظمى، صاحبة بيع فلسطين لبلفور، فهي الشر الأعظم. هي على مذهب نيتشه: “كل من يريد أن يكون مُبدعاً في الخير وفي الشر، عليه أن يكون أولاً مُدمِّراً، وأن يُحطِّم القيم.. هكذا هو الشر الأعظم جزء من الخير الأعظم”. نعم.
الإنسان العصري في بدايات القرن العشرين ومئوية ذلك القرن اللعين، سمح للإجتياحات بأن تُمارِس “حق الاستعباد”. تصوّروا، جزيرة صغيرة، (بريطانيا) سُميت بالعظمى، لأنها احتلت واستعمرت ثلثي الكرة الأرضية. سرقوا الكرة الأرضية. ارتكبوا مجازر فادحة. (مجازر إسرائيل في أمتنا لا تصل إلى قامة مملكة مُجلّلة بدماء سكان البلاد الأصليين).
“إسرائيل”، هي الطفل الرضيع الذي نشأ، بل أنشئ، في حضن الغرب المتوحش، المفترس، الراغب في المزيد من المال، إلى آخر من يملك مالاً. “إسرائيل” هذه فازت بجائزة الإحتلال، بعدما سفكت دماء اليهود بأيدي الدول الفرنسية العنصرية. اليهود كانوا ضحية الغرب. تعرّضوا لمذابح وطرد وكراهية وهولوكوست. اليهود في الغرب “الحضاري”. تم تقتيلهم وحرقهم ونفيهم في النصف الأول من القرن العشرين. إنها حضارة الهمج الأوروبي، وبين قوسين: أوروبا بنت مجدها من خلال ما سرقته إبّان استعمارها للدول التي تم اذلالها. (إقرأوا أفدح ما ارتكبته بريطانيا في الهند، وهي أكبر من قارة).
نعود إلى فلسطين.
الإنسان الراهن ينسى جريمته. ذاكرته انتقائية وانتفاعية. لذا، من هو هذا الفلسطيني؟ إنه رقم. وليس كائناً بشرياً. إنه يصلح للطرد.
غير أنه في فلسطين، هناك شعبٌ لا يشبه شعوباً أخرى.
مائة عام من النبذ والاحتلال والقمع والقتل، ثم القتل، ثم القتل. ومع ذلك، فإنه شعب ينبض بالحياة والأمل، وينفق من آلامه وعذاباته ودمائه ما يجعله ينبض بالولادات الدائمة. هذا شعب لا يموت، أو هو شعب، موته طريق لحياته وحياة وطنه.
هذا الشاهق والقادم من اللازمن العربي. افتتح جلجلة تنبئ بقيامة. من شاهد القتل الصهيوني، والرعاية والمشاركة الأميركية، لا يمكنه أن يتنبأ بالانتصار. الدمار في غزة، غير مسبوق. إبادة كاملة. عنف أعمى. حقدٌ مزمنٌ. “افرحي يا قدس، افرحي يا حيفا. افرحي يا كل فلسطين، لقد ولد منك شعب لا يموت”. شعب الجبّارين.
السطور الأخيرة، هي الشتائم التي ألّفتُها في هذا الشهر الدموي العظيم. إباحية كاملة. الشياطين الغربية والأميركية وبهدلتها وسحلها بنواياي الشرسة.
أما في ما بعد. فقد ولدت فلسطين في كل شوارع وأرصفة العالم. افرحي يا فلسطين. أنت راية الشعوب في القارات الأميركية والأوروبية والأفريقية والآسيوية.
عذراً يا فلسطين، فإن الحكام العرب (…)، عذراً؛ ضعوا الصفة الملازمة لهؤلاء.. استعمل المتنبي لفظة لائقة بهم: “الخصيان”.
المجد لفلسطين. لشهدائها. لشعوب بلغت قامة الطوفان في العالم كله. وإن غداً لناظره قريب.
ثقوا: لن نموت أبداً. القيامة حتمية.