إن نسيت من الماضي أحداثا ومناسبات للحزن أو الفرح، أو لهما معا، فلن أنسى زياراتنا الممتدة إلى مقابر العائلة في منطقة مدافن باب الفتوح. أعرف أنه في جهة ما من جهات الحكومة من يحاول طمس ما حملت ذاكرتي وذاكرة آخرين؛ أحداثا عشناها وأماكن عشقناها وأناسا عاشرناهم. تمنيت لو توقفت المعاول، حتى لو حسنت نواياها، عن هدم معالم حزن ناعم مارسناه بفرح أيضا ناعم. تمنيت لو تركوا لأطفال هذه الأيام فسحة في زمنهم تعيش معهم ضمن ذكريات عن متع نادرة.
***
كانت أيامنا السابقة على حلول الأعياد أيام سعادة لا تقل فرحة عن الأعياد نفسها. نخرج، أمي وأنا وشقيقتي الصغرى، إلى شارع فؤاد لنشتري ملابس العيد، أما احتياجاتنا المنزلية الضرورية للمناسبة كالدقيق والسكر والزيوت فكانت عند البقال تطلبها أمي وتدفع ثمنها ليحملها صبي المحل ويصحبنا بها إلى بيتنا. احتياجات أخرى ومنها المربات والمفتقة والحلبة لزوم التسمين ومنها أيضا السمنة البلدية والمكسرات وبخاصة الزبيب ومنها أنواع شتى من المخللات ومنها الأرز، كلها وغيرها كثير كانت ضمن المخزون الذي يتجدد مرة في السنة ومكانه “الصندرة” المختفية في سقف المطبخ أو “النملية” المتصدرة أحد جوانبه.
***
يشهد بيتنا في الليالي السابقة على المناسبة الدينية مشاركة الجارة الأقرب وشقيقاتها والمتطوعات من خدم العمارة وأم سيدة الشغالة والقادمة خصيصا من الريف، وغيرهن في صنع العجين اللازم لفطير يسمى “المنين” والشليك وفي قول آخر “الشريك” ولا أنسى الاشتباكات الكلامية الظريفة التي كانت تشتعل كل مرة بسبب الاختلافات حول “النطق” الصحيح لهذا المنتج الفاخر من مخبوزات زيارة المقابر في الأعياد. لم يبخل المذياع بدور له في إثارة البهجة بإذاعة الأغاني المناسبة وكنا، وأقصد الأطفال، كما قالت إحدى الجارات، زينة الليلة. نصول ونجول بين شقق العمارة في انتظار عودة “الصواني” من فرن الحي.
***
تجتمع كل المخبوزات من بيوتنا لتتوجه قبل يوم أو يومين إلى بيت العائلة بالجمالية استعدادا لنذهب جميعا إلى المقابر. هناك في البيت الكبير تتولى إحدى الشقيقات، أقصد إحدى خالاتي، مسئولية إدارة المطبخ حيث يجري إعداد ما يكفي لإطعام العشرات من أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء الزائرين وعشرات آخرين من ذوي الإعاقة وفقراء الحي ومن عائلة أو عشيرة المسئول عن خدمة المقبرة وحمايتها من غزو الأغراب وبخاصة لصوص الجثث.
***
في اليوم الموعود تتحرك القافلة من البيت الكبير في طريقها إلى حي المقابر الواقع خارج باب الفتوح في نهاية شارع المعز مارة بسوق الزيتون والليمون. تقود القافلة عربة حنطور تستقلها الجدة “نينا جمال” والشقيقات الأربعة، تليها عربة أخرى وعلى متنها شباب وأطفال من الجيل الثاني، بعدها عربة “كارو” تحمل صندوقا بدا لي وقتها هائل الحجم حتى أن أربعة رجال أنزلوه من البيت ليضعوه فوق العربة ومعه “زكايب وأجولة” ممتلئة بثمار فواكه الموسم وأكياس محشوة بشتى أنواع التمور ومعها لحمايتها خلال الطريق عدد لا يحصى من الشغالات وأغلبهن تحت سن الخامسة عشرة. وكالعادة ما اجتمع على ظهر عربة “الكارو” نساء وفتيات إلا وارتفعت أصواتهن مع إيقاع “الطبلة ” بمزيج من الأغاني الشعبية المرحة أو بما له علاقة بالمناسبة.
***
أجواء السعادة هي الغالبة في الموكب. الفتيات، كلهن بدون استثناء، في جلاليب وفساتين ملونة بألوان الفرح والمرح. كل راكبة على عربة الفتيات معها علبة وصندوق من الورق محشو بشتى أنواع الحلوى المصنعة منزليا. الكل مشارك في الغناء والتصفيق الإيقاعي المصاحب لمثل هذه الأغاني والأهازيج. بينهن من تمني النفس بعيدية كبيرة في اليوم التالي، وأخرى أصغر في العمر، وليس كثيرا، تحلم بركوب “المراجيح” والارتفاع بها إلى أعلى حيث تنتبه مرة بعد أخرى، وهي لا تبالي، إلى أن فستانها الطائر معها سلب ألباب مراهقي الحي المتجمعين حول الأرجوحة.
***
المنظر داخل المقبرة لا يقل حركة ونشاطا. يأتي متعهد الكراسي وصبيانه ينقلون حمولة عربتهم من كراسي وموائد صغيرة وطفايات سجاير، هؤلاء الصبيان يحلمون ببقشيش مناسب يليق بخروجهم المبكر للعمل في يوم عيد. رجل من خارج المقبرة “يكح” بصوت عال، كحة أو أكثر مصحوبة بطلب الستر من “الستار الأعظم”. إنه “السقا” حاملا “قربة” المياه ليفرغ بعضها في الزير، وبعضا في الزير الآخر الكائن في غرفة انتظار النساء، يتدلى إلى جانب كل زير “كوز” بحجم مناسب.
***
ينتصف النهار الأول وقد امتلأت القاعات والحوش بالزوار، وفي وسطهم كرسي مخصص لصبي أو كهل أو ما بينهما في العمر، يأتون معممين أو مكشوفي الرؤوس، يتربعون عليه دون استئذان ويشرعون في تلاوة آيات من الذكر الحكيم. لاحظنا، ولم نتكتم، أن أغلبهم يتلون الآيات نفسها، وأن عددا منهم يخطئون ويزيفون، فالآيات هي من ضمن ما نحفظه نحن الأطفال في مدارسنا ونتلقى من أجل حفظه ضربات من عصا رفيع يحملها دائما مدرس الدين.
***
كثيرا ما كنا نستدعى من الشارع لتجرى لنا أو علينا أمهاتنا أو من تحل محلهن عملية إعادة نظر أو التأكد من نظافة وجوهنا وأيدينا و”هدومنا”. نعرف فورا أن شخصية كبيرة سوف تحل على المقبرة في زيارة خاطفة للتعاطف أو للدعاية. سرعان ما ينتشر الخبر فيمتلئ الشارع بالكبار والأطفال من أهل الحي ليكونوا في استقبال معالي الباشا ورفاقه.
***
ممارسات أكثرها موروث عن قدمائنا. نخطئ إن كنا نخجل من حقيقة أن أجدادا ابتكروها وأجدادا مارسوها وأحفادا يمارسونه، هدفهم إحياء الذكرى وتأكيد الانتماء وتخفيف الحزن على غياب الغاليين والشوق لهم ببعض الفرح.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
