طلال سلمان

تفجير المجتمع

عقل مستريح أم وعي خبيث؟ لكل منهما وظيفته.

المجتمع في خضم حرب أهلية، بل أسوأ من ذلك، هو في حالة انفجار، حيث تتفكك العلاقات ويندحر الوعي وتسود التعمية وتضيع الأهداف. فلا يتوقع الناس إلا بئس المصير. في الحرب الاهلية مطالب اجتماعية وسياسية واقتصادية لكل طرف، يتقاتلون حولها حين يبلغ الخلاف اشده.

في الانفجار الاجتماعي يختلف الناس حول أسس المجتمع. ينكر البعض الرؤى التاريخية عند الآخرين، يختلفون حول الحاضر وحول الحق في الوجود. لا يخلو مجتمع من التناقضات ومن التعددية، والحقيقة ان كل مجتمع متعدد لكن عندما يصل كل فريق الى درجة انكار وجود الآخر فان الجميع يتجاوزون الحرب الاهلية الى الانفجار.

مئات الالوف من القتلى والجرحى ربما ملايين، عشرات ملايين المهجرين في الداخل والخارج. يهيمون على وجوههم. لا مكان يذهبون اليه، ولا يستطيعون الرجوع الى حيث كانوا. ربما لا يجدون بيوتهم، الارجح انهم لن يجدوا الاوراق التي تثبت حقوقهم العقارية. المجتمع الدولي العاجز عن اجتراح تسوية سياسية تدير امورهم، او لا تديرها، يطالبهم بالعودة او لا يفعل ذلك. ما يسمى وطنا صار حلماً. الاحلام يائسة. المصير مجهول. المعلوم لا يبنى عليه.

ثورة 2011 حدث مضى. تغولت الثورة المضادة. عادت المنظومة السياسية والعسكرية الحاكمة الى اساليبها القديمة بما هو أسوأ مما كان. حماية نظام طائفي باسم العلمانية. وحماية نظام ديني باسم استقرار المنطقة والمصالح العالمية النفطية. صنّف كثر من الناس هدفاً للتدمير والقتل تحت راية محاربة الارهاب ومحاربة التكفيريين. صودرت قضية فلسطين باسم القدس، وصودرت قضية القدس تحت راية التسويات مع الاميركيين ودولة اسرائيل. ويجري العمل بالتفاهم مع الاميركيين . تخاض حروب موضعية يتفق فيها الروس والاميركيون بينما هم مختلفون في اميركا (التحقيقات بشأن التدخل في الانتخابات الرئاسية الاميركية). ويتحالف الروس والايرانيون في سوريا (والعراق؟) لكن الخلاف قائم تحت عنوان العقوبات الاميركية، وارادة ترامب الغاء الاتفاق النووي. يمارس الاكراد استقلالهم حيث يمكن، في سوريا والعراق، فهل قرروا ان مظلوميتهم محصورة بالثأر من العرب؟ اما الاتراك فهم يبحثون عن موطىء قدم. يبدو ان منطقة ادلب لا تكفيهم. داعش السنية ترفع لواء خلافة لم توجد منذ ان قضى على وجودها الاسمي والشكلي السلطان سليم الاول بعد مرج دابق، اي منذ ستماية عام. يريد منا السلفيون الرجوع الى العيش مثل السلف الصالح، ولا ندري عن هؤلاء الكثير سوى انهم قتلوا عدداً من الخلفاء الراشدين وغيرهم. وهكذا دواليك.

لكل فريق راية. الراية موقف. الموقف تعبير عن رغبة. الرغبة الغاء الآخر. الأسوأ ان الرغبة لا تستدعي التفكير. يتحدث الناس عن مشاريع لتغيير خرائط دول المنطقة. وفي احسن الاحوال مناطق نفوذ لقوى دولية ودول عظمى محلية. سكان المنطقة العاديون الفقراء، المهجرون، المنفيون، لا علاقة لهم بما يجري. ينهار كل شيء، فكأن الامة العربية مستهدفة بمجتمعاتها ولغتها، لكن البعض يتحدثون عن انتصارات.

في كل ذلك تغيب الدولة، دولة كل قطر عربي، فكأن لها مهمة واحدة وهي ادارة الحرب بأوامر خارجية ضد منافسيها في الداخل وضد جيرانها المزعجين. وفي كل ذلك تغيب السياسة. لكل فريق روايته عن التاريخ والحق. لا يتنازل لان في ذلك ما يتناقض مع العقيدة الدينية. عندما تستحيل التسوية تستحيل السياسة.

ليست السياسة الا التسويات وتراكمها. تراكم التسويات هي جملة تنازلات عما يعتبر الحقيقة المطلقة. لا يستقيم امر الحقيقة المطلقة الا بالغاء وتدمير ذوي العقائد الاخرى. هم كفار مصيرهم جهنم في. حكم عليهم في الارض بالنيابة عن الله بالقتل والتشريد. كل فريق ينوب مكان الله.

غياب الدولة ليس صدفة. قصّر الناس في معنى الدولة. وتقهقه شركات النفط ودولها. ما دامت الدولة غائبة فإن النفط يتدفق بالغزارة المعهودة. حقوق الشعوب مهدورة، سواء في ما يتعلق بالنفط أو غيره من سبل الانتاج. عاش الناس على وهم النفط. حسبوا انه لهم فاذا هو لغيرهم دائماً.

ليس الدين هو ما يقرر مسار المجتمع، العكس صحيح. المجتمع يقرر مسار الدين. الم يتغير الدين ومعطياته عدة مرات في التاريخ حسب متطلبات السياسة والمصالح العسكرية والاقتصادية؟ الا يخترع الاسلاميون ديناً جديداً يتماشى مع متطلباتهم الراهنة؟

زعماء يتحدثون عن الامة العربية والاسلامية. لا نعرف هل هي قومية عربية او دينية اسلامية. الامة حاضرة بمفاهيم ملتبسة. لكن الدولة غائبة يجميع مفاهيمها. فشل العرب في بناء دولة، لكن القوى الخارجية كانت اقوى في افشال هذا المشروع. وفي جميع الاحوال، التباسات المفاهيم مطلوبة من اجل ان لا يكون لدى هذه الشعوب وعي لمصيرها.

فقراء كثيرون هم الغالبية العظمى في هذه المجتمعات، وفوق كل كوخ صحن لاقط. فضائيات دينية بالمئات وربما بالآلاف تبث كل ما يبعث على الكره والسخف. نخب قليلة ومعزولة لا تستطيع مواجهة المدّ، او بالاحرى لا تعرف ماذا يجري كي تواجه. النخب العارفة تنضم الى قوافل الجهل. الجهل زائد الدين يرفع شأن المقدس.

أنظمة فاقدة الشرعية. الشرعية لا تكون الا برضى الناس وانغراز الدولة في ضمير كل منهم. مع تشويش الوعي وانسحاق العقل، ليس لدى هذه المجتمعات ما تقدمه في سبيل المشاركة، وفي سبيل اعطاء الشرعية لاي نظام. كل نظام من دون الناس والشرعية المعطاة يتحول الى جهاز للقمع. كل نظام يحتوي الناس ويشركهم في القرار يتحول الى دولة. الدولة مفهوم ووعي وانتماء الى مجتمع، واستعداد للدفاع عنه. لا يوجد ما يمكن الدفاع عنه. الكل يقاتل الكل. لن تفهم شيئاً اذا تتبعت سير المعارك. الافضل ان تكتفي بما عندك من موقف او مواقف. يدور المرء حول نفسه. تنغلق ذاته. ينفجر الغضب في داخله. يقاتل اذا قاتل خبط عشواء.

هكذا تتشلع المجتمعات العربية. جاء زمن فرار المرء من اخيه ومن امه وابيه. الرد على شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” كان بشعار الثورة المضادة ومن وراءها ”الانظمة تريد اسقاط المجتمعات” عن طريق تشليعها وتشويش الوعي وشلّ الارادة. عندما يتشوش الوعي ويفقد العقل مكانته تنشلّ الارادة. التقنيات الحديثة تساهم في ذلك. كل امرىء يصوب الى الالة الذكية التي يحملها في جيبه، أو الى الشاشة التي في المنزل.

قيل ان الفردية تختصر الحداثة. لكنها الفردية المشاركة في المجال العام، في السياسة وفي تطور المجتمع. هي ليست فردية الشخص المعزول المنكفىء على ذاته، الممنوع من ولوج المجال العام. هي فردية من لا لزوم له في السياسة. ولا لزوم له في المجتمع ، يضطر الى الاحتيال والتسول والهجرة من اجل لقمة العيش. وفي كل هذه الامور تذرير للمجتمع بما يعني تفجيره، فلا يبقى المجتمع ولا تبقى العلاقات الاجتماعية. وربما تنشأ علاقات اجتماعية أخرى، لكنها من النوع المؤدي الى التذرير والتشليع.

تنشر بالتزامن مع موقع روسيا الآن

Exit mobile version