طلال سلمان

تفاصيل هامشية في يوميات إبادة جماعية

قطاع غزة – حلمي موسى

الحرب الصهيونية على غزة ليست الحرب التي نعرفها ونسمع عنها فحسب. إنها حرب من نوع جديد، تتنوع مظاهرها وبالتالي، أشكال المعاناة فيها.

صحيح أن القتل والتدمير هو أكثر معالمها وضحا، وهو قتل أسماه البعض، عن حق، إبادة جماعية فيما تحفّظ آخرون عن استخدام هذا المصطلح، بالرغم من أن عدد الشهداء يتجاوز ما تعلنه رسميا وزارة الصحة والذي يقترب حاليا من ٤١ ألفا. إذ هناك ألوف آخرون من الشهداء لم يصلوا الى المستشفيات، مازالوا تحت الانقاض في بيوت وعمارات وأبراج ومؤسسات، بالإضافة إلى الوف ابتلعتهم الحفر الهائلة التي نتجت عن القذائف والصواريخ التي أطلقتها طائرات وبوارج ومدفعية الاحتلال. وهناك آلاف من الجرحى والمرضى الذين تتفاقم إصاباتهم أو جراحهم من دون أن يجدوا دواء أو علاجا بسبب انهيار الجهاز الصحي جراء التدمير المنهجي لهذا القطاع واستهداف مؤسساته ورجاله وحتى سياراته.

وبعد الجهاز الصحي، هناك الإبادة الحقيقية لجهاز التعليم على كل المستويات. فالتدمير الكلي طال كل الجامعات وتقريبا كل المدارس. وهكذا، فإن المسألة ليست فقط ضياع سنة دراسية وإنما مصادرة حق التعليم لدى الطلاب والتلاميذ ربما لسنوات مقبلة. صحيح أن هناك محاولات لتعويض التلاميذ عبر مبادرات فردية وجماعية لكن ما يجري لا يتجاوز كونه نقطة في بحر المطلوب.

والحرب طالت تقريبا كل وسائل الانتاج الاقتصادي. فتدمير المباني طال الأسواق، حتى الاثرية منها.

وكان واضحا سعى الاحتلال لتدمير المصانع والورش وكل موارد الحياة الاقتصادية الصناعية من مخازن وآلات. ولم يكتف جيش الاحتلال باستهداف المناطق الصناعية بل دمر الورش الصغيرة ضمن الأحياء السكنية.  وتمت، بشكل منهجي، عملية تجريف للأراضي الزراعية وبالتالي اقتلاع الأشجار وتدمير الآبار وتدمير القطاع الزراعي برمته تقريبا.

وفوق هذا وذاك، استهدف الاحتلال ودمّر مقومات الحياة الطبيعية من مخابز ومزارع الابقار والماشية ومراكز انتاج الألبان ومطاحن الدقيق.

وذلك بعد تدمير البنى التحتية من مجاري وخطوط مياه وكهرباء وهاتف في كل الطرق الرئيسية والفرعية داخل المناطق السكنية وفي الطرق الرئيسية.

وطبيعي أن ذلك كلّه مثقل ومؤثر بشكل سلبي جدا على حياة الناس في القطاع لكنه ايضا لا يغطي جوانب المعاناة المعاشة يوميا. فالحصول على الطعام والشراب ومياه الخدمة عبارة عن نضال يومي صعب للغالبية الساحقة من الناس هنا. وعند معرفة أن ما لا يقل عن ٩٠ في المئة من الناس نزحوا عن بيوتهم وتركوا خلفهم كل متاعهم ولباسهم ومستلزمات حياتهم تعرف ان عليهم بدء حياتهم من جديد. سكن ومأكل ومشرب. ولأن غالبية الناس لجأت الى مناطق فارغة كان عليها أن تبني لنفسها مسكنا من خيام او عرائش او من صفيح او حتى من أكياس نايلون او قماش فارغة. وبعدها، كان يتعين البحث عن مواعين للطعام والشرب وحفظ الماء. وقبلها حفر حمام خاص او عام لقضاء الحاجة. وبعدها جلب المياه للشرب او للنظافة العامة.

وطبعا محظوظ من بقي في مكانه ولم يضطر للمرور بتجربة الانتقال والرحيل إلا مرة واحدة او اثنتين او ثلاث. هناك من اضطر لتكرار التجربة مرات كثيرة لأنه حين كان يخرج من مكانه لم يكن يجد إلا الشارع حقا وفعلا.

وبعد ذلك تأتي مشكلة تكاليف الحياة وتوّفر المواد الضرورية. وهنا كان للحصار الذي فرضه الاحتلال آثار بغيضة جدا. فارتفاع الاسعار خيالي. مثلا، سيجارة واحدة من أردأ الأنواع يمكن أن يصل ثمنها الى أكثر من ثلاثين دولارا. وطبعا، فالسجائر، وإن كانت ضرورة للمدمنين عليها، إلا انها ليست التعبير الحقيقي عن حاجات الناس.

لننظر فقط للنظافة الشخصية والعامة. مثلا قطعة صابون جيدة كانت تباع بما يقرب من ستين سنتا صارت تباع بنحو 15 دولارا. وليتر سائل للجلي من النوع الذي كان مثلا بدولار واحد صار بأكثر من عشرين دولار. وتسمع اناس يتحدثون عن الصابون كمن يتحدث عن أمنيات وطموحات.

وليس ذلك وحسب. فغالبية الناس تركوا بيوتهم هربا ولم يحملوا معهم سوى ما يرتدونه من لباس. في البداية كانوا يذهبون إلى الأسواق بحثا عن غيار داخلي أو بنطال وقميص، وذلك لتمرير أسبوع أو أكثر على أمل ان تنتهي الحرب ليعودوا إلى منازلهم. وطبعا، لا يصرف كل من يحتاج أمرا الكثير من المال من باب الحيطة. ولكن بعد فترة لم تعد تجد لا لباسا ولا احذية.

انتهى الشهر الحادي عشر للحرب ومع نهاية الشهر الحالي يكون قد مرّ عام من دون أن تدخل قطاع غزة، تجاريا، أي ملابس أو أحذية. تخيلوا أكثر من مليوني نسمة فقد معظمهم ملابسه وأحذيته. كيف يتدبرون أنفسهم خلال هذه الفترة؟

أنا شخصيا، على الأقل منذ ما لا يقل عن أربعة شهور، أبحث عن بنطال وقميص لشرائها لتغيير ما زهقت من كثر ارتدائه. وصرت للمرة الأولى في حياتي أرتدي، غابية الوقت، جلابية لأنها تغني عن بنطال وقميص.

هذه محاولة أولية لتصوير جانب من معاناة نعيشها وهي أحيانا تعبير عن القتل النفسي اليومي الذي يجري التحذير من تبعاته والذي لا بد من تقدير صبر الناس على تحمل معاناته.

Exit mobile version