طلال سلمان

ترامب كاتب الرواية أم بطل من أبطالها

تابعت بشيء كبير من الشغف ولمدة غير قصيرة أفعال الرئيس دونالد ترامب. الآن أتابع أفعاله بشيء كبير من القلق وبدون شغف. كان للشغف ما يبرره، إذ جاء الرجل في أعقاب عهد أمريكي معجون بالملل. قضينا، وبكلمات دقيقة، قضيت مدة العهد السابق متابعا علامات مكررة لدولة عظمى تنحدر في المكانة وتنسحب من مواقع قوتها ولا تحاول بالجهد المناسب صنع البديل المتمكن. أذكر أن بعضا من الناس التهى عن الملل بتحليل بلاغة الخطاب السياسي، وبالفعل كان باراك أوباما قمة في بلاغة اللغة. هذا الرجل الذي أجاد فهم القانون وعلاقته بالسياسة واستشعر عن بعد كاف بتسارع درجات انحدار بلاده كان متواضعا في فهم مغزى التحولات الجارية في ذلك الوقت سواء في داخل المجتمعات عامة أو في قواعد العمل الدولي وعلاقات الدول ببعضها البعض. لم يقتنع كفاية بأن الأزمة المالية والاقتصادية التي وقعت عشية استلامه الحكم وغداته كانت لا بد وأن تثمر تغيرات جوهرية في وعي الطبقة السياسية الحاكمة في معظم دول العالم الرأسمالي وفي البنى الاجتماعية في عديد الدول. من ناحية أخرى لم يقدر أوباما الثورة التكنولوجية الكاسحة حق قدرها ولم يحسب حسابها في إرساء علاقات أمريكا بالدولتين المنافستين لأمريكا، الصين وروسيا.


جاء ترامب فتوقف الشغف واشتعل القلق. أينما وجهنا آذاننا لنسمع وعيوننا لتبصر نقابل القلق. زميل سابق عائد من رحلة عمل طويلة في أمريكا الجنوبية فاجأني بإجابة عن سؤال تقليدي يسأله من يعرف شيئا عن هذه القارة. قال، القارة تعود إلى المربع رقم واحد. شعوب تشتبك مع هوياتها. الفساد يقضم الحاضر والمستقبل معا. الطبقة الوسطى تضمر أو تذوب أطرافها في كتل الفقر وعشوائيات الفكر والثقافة والسياسة. البرازيل كانت نموذجا وعادت لنفس النموذج. دائما أبدا أسأل ودائما أبدا أسمع أن الجيش البرازيلي يستعد لتولي السلطة فالفوضى ضاربه والفساد مهيمن ومنظمات الجريمة هي التي تحكم قرى أو مدن أو تسيطر على مساحات بعضها يزيد عن مساحة المملكة المتحدة أو ايطاليا. ليس سرا أو خبرا غير معلن أن للجيش دورا في خطة تشويه سمعة الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا وضرب قاعدته الشعبية، وللجيش يدا في اختيار السنيور بولسونارو كمرشح في انتخابات الرئاسة ويدا أخرى في النتائج التي حصل عليها. ربما يكون انتخابه البديل الأخير لتدخل سافر من الجيش البرازيلي يعقبه، وكلنا شهود من التاريخ القريب، انقلابات عسكرية في عدد غير قليل من دول القارة. الفساد في البرازيل عاد يعمي الأبصار ويتحدى الكنيسة، وهي على كل حال، فاقدة معظم رعيتها. فقدت الرعية خلال المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية. فقدتها حين اعتنقت نسبة كبيرة من الكاثوليك البروتستنتية الإنجيلية، وبخاصة الفرع الذي زين لدونالد ترامب حكم أمريكا وتاج مملكة بيت المقدس الممتدة حسب مشروع شهير عرف بصفقة القرن لا تكاد العين تراه إلا ويختفي ليعود فيظهر في عاصمة أو أخرى ويختفي.


يتصاعد العصيان ضد الولايات المتحدة. بوليفيا ما تزال تعارض سياسات أمريكا في القارة الجنوبية وتدين مواقفها من فلسطين. وفنزويلا صامدة في مواجهة الولايات المتحدة التي استطاعت كسب تأييد أكثر من خمسين دولة ضد حكومة الرئيس مادورو وتدعم مرشح واشنطن وتعترف به رئيسا. تعترف به اعترافا مؤجلا ومرتبطا بواقع استلامه السلطة الفعلية. فنزويلا نموذج مهم للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس ترامب. ليست النموذج الوحيد فالسياسة الأمريكية تجاه روسيا نموذج آخر وكذلك السياسات تجاه سوريا وكوريا والسودان وإيران كلها نماذج لسياسة تجويع الشعوب لإخضاع الخصوم. أهمية النموذج الفنزويلي تكمن في وحشيته منذ أن ركز الحصار على الغذاء والدواء. لم يتدخل ترامب عسكريا ولكنه ربما أراد اختبار هذا النموذج كأداة أشد عنفا وقسوة من الحرب يرهب بها شعوب أمريكا اللاتينية وأغلبها غاضب وربما لأنه، وأقصد ترامب، لا يريد الدخول في حروب خارجية استنكرها بنفسه خلال حملته الانتخابية. المؤكد على كل حال أن المؤسسة العسكرية الأمريكية لها رأي يقضي بعدم التدخل عسكريا في فنزويلا متأثرة بتهديدات كل من الصين وروسيا. نعرف الآن أن تقارير موثوق بمصادرها أفادت بأن منظمة “فارك” التي حاربت لسنوات عديدة جيش حكومة كولومبيا وقوات أمريكية غير نظامية هددت بأن تعود قواتها إلى الغابات لاستئناف القتال لو وقع اعتداء عسكري مباشر على دولة فنزويلا.


نعلم، ولكن ليس بعلم اليقين، أن فيروسا ما أصاب الرأي العام العالمي فأقعده ربما إلى أجل غير مسمى. تشاء الظروف ولعلها الأقدار أن يرتاح رؤساء أعظم الدول المتنافسة على مقاعد القمة الدولية إلى مفهوم جديد في الممارسة السياسية، ألا وهو مفهوم عصر “الرجال الأقوياء” أكان ترامب صاحب هذا المفهوم وأول من أطلقه أم كان فلاديمير بوتين أم أن ممارسات الصين السياسية مع عشرات الدول الواقعة على طريقي الحرير والحزام هي التي أوحت لقادة الحزب الشيوعي الصيني بالاستفادة من هذا المفهوم مجددا وإعادة تلميعه ليليق بمقومات عصر جديد في ساحات التنافس الدولي. الجدير بالذكر هنا أن الزعماء الثلاثة وعدد من زعماء الصف الثاني مثل أنجيلا ميركل لم يبد واحد منهم مرة واحدة اهتمامه باللون الأيديولوجي لرجل من هؤلاء الرجال الأقوياء الذين يحكمون دولة أو أخرى في أمريكا الجنوبية أو في إفريقيا أو في الهند والفلبين وتايلاند وحيثما وجدوا في الشرق الأوسط. المؤسسات، وجودها مثل عدمها، في تقدير ترامب وزميليه لمكانة أي دولة وقدرتها على تنفيذ التزاماتها وسداد أقساط وفوائد ما استدانت من قروض. وهي، وأقصد المؤسسات، صار مثلها على كل حال مثل الرأي العام كالصلصال يشكلونه على هواهم باستخدام أحدث التكنولوجيات. هم الآن يشكلون رأيك ورأيي ورأي شعوب عديدة .


ما زلت لم أقرر إن كان دونالد ترامب منشئ مرحلة تاريخية أم هو صنيعتها وإحدى أدواتها. لا شيء من أفعاله يقطع بإجابة حاسمة. يتساوى كرهه للقانون ومقته للقانون الدولي والمؤسسات الأممية مع كره ومقت معظم من صاروا يحملون اسم الرجال الأقوياء، كما لو كنا نعيش مرحلة تستدعي حتما وبالضرورة صفات استثنائية ومتجاوزة القوانين. كلهم، بدون استثناء، يخشون من قوة ومفعول التكنولوجيا الحديثة وشركاتها التي سيطرت فعلا ثم هيمنت. كلهم، أو أغلبهم، يعلمون أن مصيرهم في الحكم مرتبط بحصيلة علاقتهم بهذه التكنولوجيا، مثل عدد الوظائف الملغاة ووظائف لا تجد من يشغلها ومثل نوع التعليم والمعلمين ومثل كفاءة المجتمع الجاهز لاستقبال إبداعات الذكاء الاصطناعي.

كلهم، أو أغلبهم، قلقون. ومن شدته انتقل القلق إلى شعوبهم.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version