طلال سلمان

ترامب برئ، إلى متى؟

وسط خيبة أمل الكثيرين برأ المحقق روبرت موللر الرئيس دونالد ترامب من تهمة التواطؤ مع روسيا خلال حملته الانتخابية قبل عامين. هكذا صاغت بعض وسائط الإعلام عنوان نبأ صدور تقرير موللر. كنت أحد الذين اهتموا بتطورات التحقيق وبالأحكام التي صدرت بالفعل ضد عدد من معاوني المرشح دونالد ترامب في تلك الحملة. تابعت كذلك التحقيقات الأخرى الجارية مع جاسوسة روسية اقتربت من جماعة أنصار حرية حمل السلاح للدفاع عن النفس باعتبارها إحدى أهم جماعات الضغط الممولة لحملة ترامب. أعترف أنني أثناء اهتمامي ومتابعتي لهذه التحقيقات لم أتوقع أن تلحق بالرئيس ترامب إدانة صريحة وقوية بأنه تواطأ مع روسيا ضد هيلاري كلينتون المرشحة المنافسة له على منصب الرئاسة.


لماذا لم أقتنع بأن يأتي هذا الاحتمال متضمنا في نتائج تقرير موللر؟ لم أقتنع رغم قوة الشكوك. لم يخف دونالد ترامب نواياه الإمبراطورية للتوسع في سوق العقارات والفنادق ومحال القمار في روسيا كما في غيرها، وكنت قد امتحنت مقولة أن ترامب ورفاقه في عالم المال والأعمال لا يدعون فرصة كالفرصة التي أتيحت لترامب وعائلته في روسيا تمر دون أن يحققوا مكسبا ماديا لهم وشركاتهم. كنت أعرف أن أجهزة الأمن الأمريكية تحقق بجدية وقلق في عمليات اختراق روسي للأمن الأمريكي لا تقل خطورة عما كان يحدث في دول أوروبية وبخاصة في ألمانيا وبريطانيا. لم ينم إلى علمنا بعد المدى الذي وصل إليه الاختراق الروسي في مؤسسات الدول الغربية لسبب بسيط وهو أن الأطراف كلها تمارس الاختراق فيما بينها وتتكتم فلا تبوح بمدى الاختراق أو عمقه. أضف إلى كل الشكوك القائمة التطورات الغامضة في العلاقة بين أمريكا وروسيا في عهدي بوتين وترامب.. إذ كان واضحا أن الدولتين تتعاملان فيما بينهما على مستويين، أحدهما رئاسي محض والثاني على مستوى بيروقراطية المؤسسات الأخرى غير مؤسسة الرئاسة. وهو أمر جائز في العلاقات الدولية وشائع أيضا. أما غير الجائز وأقل شيوعا فهو أن يتناقض المضمون في المستويين.

لم يقتصر تناقض المضمون على الشكل فقط، وأقصد على ما كشفته لنا التعبيرات الجسدية للرئيسين خلال اللقاءات القليلة التي جرت بينهما وامتدت إلى تقويم كل منهما للآخر. كانت تصرفات الرئيس ترامب تؤكد الشكوك وتعزز الاحتمال بأنه يخفي شيئا عن مؤسسات دولته وبخاصة التشريعية والأمنية بل والدبلوماسية أحيانا كثيرة. يكفي أن نذكر أن المؤسسة الأمنية من ناحية ومؤسسة الرئاسة من ناحية أخرى كلاهما لم تتبادلا الثقة الكاملة ربما حتى لحظة كتابة هذه السطور.


في إحدى جلسات حواراتنا سمعت قائلا يقول “سنوات أربع ويرحل الرجل ويأتي محله من يفعل مثله فيمحو ما فعل ترامب من أفعال”. وفي اللحظة التالية سمعت من أسرع بالرد على صاحبنا ليبلغنا أن النقاش حول هذا الموضوع يجب أن ينحو منحى آخر ربما أكثر واقعية وبعاطفة أقل. “يجب أن نراعي”، هكذا قال، “حقيقة أن سياسات الدول الكبرى لا تمحى بهذه البساطة. ما فعله ترامب أكثره باق معنا شئنا أم أبينا وشاء مرشحو الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة أم أبوا” .


مثل هذه القرارات والسياسات المهمة، ولنسميها استراتيجية تمييزا لها عن سياسات لا تتعلق مباشرة بالمصالح القومية والأمنية للدولة، لا تصدر في غالب الأحوال عن مزاج أو نوبات عاطفية، مهما بدت لنا لحظة اتخاذها. جرت بيني وبين متخصصين حوارات مطولة ركز أحدها على قضية الهجرة وما اتخذه فيها الرئيس ترامب من قرارات أعلنها بنفسه بطريقته الخاصة المستفزة مشاعر المشاهدين والمثيرة لانفعالات المتأثرين بها. نعرف كيف أثارت طريقته هذه غضب بشر وحماسة بشر آخرين. دارت مناقشات سخنت في بعض حلقات الحوار جرى فيها التداول حول حدود الدور الذي يلعبه أو يقوم به دونالد ترامب. كثيرا ما سئلنا عن تغريدات الرئيس وهل هي صادرة عن إنسان يفكر منفردا ثم يغرد أم عن إنسان يستمع إلى آخرين من خارج البيت الأبيض، كما قيل عن تأثره بمعلقي قناة فوكس، أو يشجعه آخرون من داخل البيت مثل كوشنر وبانون وبولتون يستمع إليهم ثم يغرد.


ذهبنا إلى أبعد مع سؤال كأسئلة المؤامرة، هل كان يمكن للرئيس بوش أن يشن غزوة العراق إذا لم تكن هناك جهة أو جماعة أو شلة، ولا أقول مؤسسة، زرعت في عقله فكرة الغزو قبل دخوله إلى البيت الأبيض أو شجعته على اتخاذها بعد توليه المنصب. هل كان يمكن أن يستمر في الحكم بعد انكشاف حدود وحجم المهزلة لو لم يكن هناك في أمريكا تلك الجهة أو الجماعة أو الشلة تمنع عنه الساعين لمعاقبته وكل إدارته على البيانات المزيفة والمعلومات الكاذبة التي استخدموها لتبرير قرار الغزو. ألا نلاحظ أنه حتى اليوم أي بعد مرور ستة عشر عاما لم يتقدم أحد بدعوى اعتداء على الدستور من جانب الرئيس بوش وغيره من الرؤساء الذين شنوا حروبا غير مبررة أو بذرائع مزورة، ولا تقدم أحد بدعوى ضد أشخاص بينهم قادة عسكريون ودبلوماسيون ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في فيتنام وأفغانستان والعراق.

هل يحق القول أن جهة ما أو جماعة أو شلة هي التي أقنعت بوش الكبير بأن سقوط الشيوعية وانفراط الاتحاد السوفييتي فرصة ذهبية للتوسع الإمبراطوري والاستفادة من واقع الانفراد بقيادة العالم. أمريكا، في رأيهم، كانت في القمة منفردة ويجب أن تحافظ على هذا الإنجاز التاريخي. ذهبوا إلى أن أمريكا حققت هذا الإنجاز بعد حربين عالميتين وحرب باردة وقرن كامل من القفزات الاقتصادية والسياسية في مسيرة صعودها نحو القمة. لكن وفجأة وفي ظل فشل أمريكي في العراق وأفغانستان ثم في إيران وقع الاكتشاف أن مكانة أمريكا تتراجع ونفوذها ينحسر فكان أن وقع الضغط على آخر رئيسين ليسحبا أمريكا وبسرعة بعيدا عن أسباب تراجع مكانتها وانحسار نفوذها وليعدا البلاد والناس لانطلاقة جديدة.


قال محاور، “أمريكا العظمى قامت عندما كانت دولة غالبية سكانها وبخاصة طبقتها الحاكمة من البيض البروتستانت. لن تعود أمريكا دولة عظمى طالما ظلت قوافل المهاجرين من أمريكا الوسطى تزحف على ولايات الجنوب الأمريكي، ولن تعود دولة عظمي والغرب الأبيض في أوروبا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا ينحسر بياضه لصالح بشرات سمراء وسوداء وصفراء. الأبيض ينسحب لونا وثقافة ونفوذا ويتقدم الأسمر والأصفر ولكل منهما ثقافة ورؤى وطموحات متميزة. دونالد ترامب، في رأيي، مكلف بمهمة عاجلة ومثيرة، مكلف باستعادة أمريكا البيضاء ووقف تقدم الألوان الأخرى في أوروبا، ومكلف بتشجيع الجماعة الحاكمة في موسكو على دمج روسيا في ثقافة الغرب إن شاءوا إنقاذها من زحف الأسيويين”.


استطرد صاحب هذا الرأي قائلا “ليست مصادفة موجة الكراهية العنيفة التي صارت تهيمن على العلاقات بين الأجناس والطوائف والقبائل. يقول الروس أن أوكرانيا تدرب النازيين الجدد على حروب المدن وتعبئة مشاعر السكان البيض ضد المهاجرين الذي سكنوا أوروبا في السنوات الأخيرة. ويتحدث إعلاميون عن مظاهرات وأنواع شتى من الحراك ينظمها ستيف بانون في مدن عديدة في غرب أوروبا”. ثم أضاف بالقول “الآن فقط أدركنا أن جماعة ما أو جهة في الولايات المتحدة لم تكن راضية عن سياسات اتخذها رؤساء أمريكيون في مرحلة العولمة مثل اتفاقيات مناطق التجارة الحرة ودعم مبادئ حرية التجارة ونزوح الشركات الصناعية للعمل في دول أخرى وتحمل أمريكا النصيب الأكبر في موازنة الأمن العالمي، وقريبا جدا سوف نسمع عن مواجهة بين أمريكا واليابان حول تكاليف حمايتها ضد الصين ومواجهة أشد مع دول أوروبا الغربية حول تكاليف حمايتها من غزو الروس”.

يعتقد صاحب هذا الرأي أن ترامب مبعوث برسالة، وأنه اختير بعناية من أجل إطلاق مرحلة يغمض خلالها الحقوقيون والدستوريون أعينهم ويسدون آذانهم عن تصرفات متعددة لرئيس “استثنائي”. لا أحد من مؤرخي الولايات المتحدة أنكر أن المهاجرين البيض الأوائل وأبناء أجيال عديدة تبنوا سياسات استثنائية في بناء دولتهم منذ قرون جرى فيها التخلص من الهنود الحمر كعقبة واستقدام الزنوج كضرورة حتى صارت دولة عظمى. وفي لحظة رخاء تاريخي وتحت الانبهار بقيادتها للعولمة راحت أمريكا تنفق ببذخ على حماية أوروبا وتنغمس في مغامرات عسكرية في آسيا وتشد على يد الصين الممدودة إليها لتنهض وتخرج من عزلتها. أفاقت فجأة لتدرك أنها تراجعت.


الدول، حسب هذه النظرية، لا تستعيد ما فقدت من قوة ومنعة ورخاء بالتزام نخبتها الحاكمة الدستور في الداخل واحترام القانون الدولي في الخارج. بمعنى آخر، أمريكا البيضاء، في حاجة متزايدة لشخص بسمات وأخلاق دونالد ترامب. لن تتخلى عنه ببساطة ولن تتركه بغير حماية حتى ينفذ ما كلف به وينهي مهمته ويرحل من البيت الأبيض.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version